أطلق ناشطون من مدينة درنة في شهري سبتمبر ويناير من العام الماضي، حملة بعنوان: “اغيثوا سجناء قرنادة”، بعد ورود أنباء من أهالي المعتقلين عن انتهاكات ترتكب بحق السجناء في سجن قرنادة.

بالرغم من محاولات المنظمات المدنية في درنة، لزيارة السجناء، والنداءات المتكررة للمؤسسات الدولية الحقوقية، إلا أن تلك الأصوات لم تلق جوابا.

ويعد سجن قرنادة أهم السجون التابعة لقوات عملية الكرامة، وقد وردت عدة تقارير تفيد بوقوع انتهاكات بالسجن الذي يقع قرية قرنادة شمال شرق ليبيا في الجبل الأخضر، جنوب مدينة شحات بنحو 12 كيلو متر، وهي تتبع بلدية شحات وتعتبر قرية صغيرة وتشتهر بمركز تدريب لضباط الصف وسجن قرنادة.

وبهذا الصدد

ألتقى موقع ليبيا الخبر مع أحد السجناء المفرج عنهم مؤخرا من سجن قرنادة، وقد روى للمرة الأولى قصته وما شاهده في السجن عن قرب، وإذ أنه يرى أن الصمت وعدم الحديث عن تلك الفترة التي قضاها في السجن، جريمة أخرى لا تقل فظاعة عما شاهده في سجن قرنادة.

الجزء الأول من المقابلة

لماذا اعتقلت؟ وكيف حدث ذلك؟

كنت في طريقي من مدينة درنة إلي البيضاء، حيث كنت أعمل سائقا لنقل البضائع الخاصة، من وإلي درنة، أزاول هذا العمل منذ أربع سنوات، لأنه لم تتوفر لدي ظروف عمل أخرى مناسبة، عملي كان جيداً إلا أن تردي الأوضاع الأمنية، جعلني دائم التردد والخوف، رغم أنني بعيد جدا عما يدور من صراعات”.

خرجت يوم الخميس في شهر أكتوبر من العام الماضي، متوجها إلى مدينة البيضاء، أحمل شحنة من القهوة المصنعة محليا في درنة، وفي ذات الوقع كنت قد اتفقت مع أحد التجار على استجلاب إليه شحنة من المواد من هناك أثناء عودتي إلى درنة”.

وفي الصباح وعند الساعة السابعة تحديدا، كنت أجهز سيارتي، استعدادا للسفر بالشحنة، إلا أنني كنت مضطرا للانتظار بعض الشيء، لأن قوات الكرامة لا تسمح الخروج من المدينة إلا بعد الساعة الثامنة، وعند حلول الساعة السابعة والنصف بدأت في التحرك، ووصلت لبوابة كرسة الأمنية والتي تبعد عن مدينة درنة تقريبا 20 كيلو متر غربا”.

وفي ذات الوقت كانت صفوف السيارات والشاحنات ممتدة في طوابير طويلة جداً، والجميع ينتظر فتح الطريق، للعبور والتوجه إلي المدن والمناطق المجاورة لمدينة درنة، وفي ذلك اليوم لم يكن هناك تدقيق أمني، ومررت ومرت كل السيارات والشاحنات بسلام وسرعة”.

ومع اقترابي من منطقة رأس الهلال استوقفتني بوابة أخرى بالقرب من المنطقة، وسألوني عن الشحنة التي أحملها، فمازحوني بأنها قهوة ممتازة عندما أجبت عن السؤال، ولم أبادر بأي عرض بأن يأخذوا منها، إذ بدا ذلك على وجوههم، واجتزت تلك البوابة وتوجهت إلى مدينة البيضاء ووصلت إليها بعد ساعة ونصف من تحركي من مدينة درنة، سلمت الشحنة واستلمت أخري، وكنت مستعدا للخروج من البيضاء على تمام الساعة الواحدة ظهراً تقريبا، وخرجت من البيضاء ومررت عبر شحات، ومنها توجهت إلي مدينتي، ولم أكن أخشي شيئا ولم تحدثني نفسي وقتها بأي سوء قد يطالني رغم المخاوف التي تجتاحني كل مساء قبيل كل رحلة عمل”.

وتوقفت في بوابة الأثرون وكذلك رأس الهلال، كان عناصر الأمن في البوابة يبحثون عن أي عبوات وقود قد أكون أهربها معي للدخول بها لمدينة درنة، كان التفتيش دقيقا، ومن ثم انطلقت مجددا نحو درنة، وقبل منطقة كرسة، وجدت نقطة أمنية جديدة، ومجموعة عسكرية راجلة، وتحدثت مع نفسي وقلت: يبدو أنهم يبحثون عن شخص ما، ومما لا شك فيها أنهم كانوا يستعدون لاعتقاله، واستوقفني آمر النقطة الأمنية، وطلب مني بكل هدوء أوراقي الثبوتية، وعطيتها له وتمعن في (البطاقة الشخصية)، وقال: درناوي! داعشي أمالا، فأجبته: أن داعش قد انتهت في درنة”.

لم أكن أقصد أي شيء، إلا أن آمر النقطة، صاح في وجهي بكلام قبيح، وأخذ يردد أنتم دواعش قتلة، ومن ثم ركل باب سيارتي، فخرجت منها، وصرخت عليه ألا يمس السيارة، وبعدها اجتمع عليّ بقية الأفراد في النقطة الأمنية وقام أحدهم بضربي فقمت بسبهم وكنت أحاول أن أضرب من ضربني، فانهالوا عليّ بالضرب ووضعني في سيارة (شيفرولايت) بيضاء، وسمعت أحد العناصر يتحدث عبر اللاسلكي يخاطب شخص آخر، ولازلت أتذكر ما قاله، وكيف أصابني الهلع والخوف، وقال عبر اللاسلكي: يا دال ثمانية يا دال ثمانية إجابة، فرد عليه الصوت مجاوبا: أرسل.. أرسل واضح، فقال له: معانا فرخ حرام سب الجيش توا نسلمه لكم كيف استلمت يا دال ثمانية فقال له: واضح.. واضح في الانتظار، في الحقيقة كانت مجرد مشادة عابرة، أصبت خلالها بهلع وخوف.

ركب برفقة في السيارة ثلاثة أشخاص أحدهما معي في الخلف، ويصوب مسدسه تارة، ويضربني تارة أخري، كنت صامتا لم أعرف كيف أطلب منهم السماح فقد أخذتني غضبة عابرة”.

وبعدها استلمتني سيارة أخرى من نوع (تويوتا) دفع رباعي، لم يتحدثوا معي على الإطلاق، كنت أظن بأنني سأخضع للتحقيق في أي مكان قريب، لأنني اعتقلت في نقطة أمنية راجلة وليس ببوابة عسكرية، وبعدها عصبوا عيناي، وتوجهت السيارة لمكان لا أعرفه، إلى أن توقفت السيارة، ونزل شخص ممن كانوا معنا في السيارة، ومن ثم صاح زميله يريد سجائر من المحل، ومر أحد الأشخاص ويبدو أنه كان على معرفة بمن كان في السيارة، وسأله عني، فرد عليه: داعشي من درنة، فكبر الثاني وقال: وفي (الشكارة)، وهي عبارة الاحتجاز والاعتقال لطالما رددها الإعلامي محمد أمطلل ولم أتوقع يوما أن تقال عني واستمعت إليها شخصيا، وبعدها تحركت السيارة، حتى وصلت لمكان آخر.

كان المكان حيويا، واستمع لأصوات مختلفة، وتتحرك السيارة ببطيء في ذاك المكان، حتى توقفت كليا وترجل منها من كان معي، وصاح بأعلى صوته (تعالوا خوذوا الداعشي)، واستقبلت في ذلك المكان بالضرب المبرح، ضرب شديد وقاس، كنت أصرخ من أعماقي، لم أعرف ما أصابني، لأنه كان الضرب شديدا”.

ووضعوني في الزنزانة معصوب العينين، وقاموا بتفتيشي وأخذ هاتفي المحمول وحزامي وبعض المال الذي كان في جيبي، كان كل جزء من جسدي يتألم، كنت أريد أن أستطلع المكان الذي فيه، كنت خائفا أن أكون في سجن قرنادة، تمنيت كل سجون الأرض إلا ذاك السجن، لأنني سمعت عنه الكثير، كنت أردد في نفسي عبارات لتطميني أنني سأخرج من هذا المكان، فأنا لم أرتكب جرما.

ومرت ساعات طويلة وأنا في المكان ذاته، حتى أزلت ما على عيني، فتأكدت وقتها أنني في أحد السجون لا أحد معي في الغرفة، كانت مظلمة، ينعكس عليها ضوء العنبر بالكاد ترى فيها شيئاً”.

هل هكذا كان يومك اليوم؟ وهكذا مرت عليك الليلة الأولى بالسجن؟

لا.. تفاصيل اليوم الأول أذكرها بدقة، ففي حدود الساعة الثامنة مساء تقريبا أو التاسعة لا أذكر تحديدا لكنني قدرت الوقت في هذا الحد، نهضت من مكاني، وطرقت الباب عدة مرات، وصحت عبر نافذة باب السجن، التي يدخل منه الطعام عادة أو يخاطبك منها السجان، صحت قائلا: يا أفندي.. يا أفندي، مرات عدة، فسمعت وقع الأقدام في نهاية الممر، لم يكن شخصا واحد إنما اثنان، كنت أريد أن أذكر لهم بأنني أريد الخروج فلقد تعلمت الدرس ولن أكررها مرة أخرى”.

وبعدها فتحوا باب الزنزانة، حينها بدا المكان أكثر وضوحا بعض الشيء، كان بيد أحدهما أنبوب طوله في حدود متر تقريبا، لم أعرف ماذا أريد وقتها، كنت أرى في عينه في تلك اللحظات السريعة، أنه يحمل حقدا وكرها وكأنني كنت جلاده في وقت ما، انهال عليّ بالضرب، صرخت كثيرا من الألم، واستمر يضربني ويردد عبارات مختلفة، أما زميله فكان يركلني إذا ما اقتربت منه وأنا أحاول الفرار من الضرب، ركلني بشدة في وجهي وبطني كنت أسقط على الأرض ويركلونني والآخر يضربني بالأنبوب كان شديدا ولاذعا، كنت أشعر بجلدي ولحمي، وبعد دقائق من الضرب المستمر، دخل زميلهم الثالث، وكان في حالة سكر، وأخذ الأنبوب من صديقه، والآخر يرفض ذلك يريد أن يستمر في الضرب، وعندما لم يفلح أخذ يركلني هو الآخر، ويصيح بأعلى صوته (الثأر يا دواعش) واستمر ثلاثتهم في ضربي بشكل مستمر، حتى أصبحت فجأة لم أشعر بآلام الجلد” “إلى أن استلقيت في مكاني، ولا أعرف كيف نمت من التعب في ذلك اليوم.

استيقظت باكرا، كنت أظن أنني في حلم، كان جسدي يصرخ ونفسي تصرخ هي الأخرى، كنت انتظر أي شخص يسألني لماذا أنا هنا؟.. أريد تحقيقا؟ أريد شخصا يحدثني فأبكي أمامه عما شاهدته وما تعرضت له جراء كلمة قذفتها أو عمل قمت به لأجل كرامتي التي أهينت في تلك النقطة، كنت أتمنى لو أنني ظللت صامتا”.

عندما وصلت للسجن، هل كنت وحدك في الزنزانة؟

نعم.. عندما دخلت معصوب العينين، أدركت أنني وحدي، لم يشاركني في المكان سوى أنفاسي، وتأكدت من ذلك بعد أن أزلت العصبة التي على عيناي، كنت استمع لصوت بعيد لكنني لم أدرك ما هو!.. أو بالأحرى لم أكن مهتما عما يحدث في بقية المكان، كل اهتمامي كان حول نفسي، وعما سيحدث وحدث لها”.

في اليوم الثاني؟ هل بدأ التحقيق ؟ كيف كان ذلك؟

وأجاب السجين قائلا: “في اليوم الثاني استيقظت، وكنت متألما جداً، لم أعرف ألما في يوم من الأيام كالذي شعرت به في ذاك اليوم، انتظرت في مكاني، وكنت في حاجة شديدة للدخول إلي الحمام، كان في زاوية الغرفة جردل أسود أو هكذا بدا لي لونه، رفضت كثيرا أن أفعل ذلك، وفضلت الانتظار على ألا أستخدم الجردل، وبعد ساعات سمعت حركة في العنبر الذي كنت فيه، وصوت جهور ينادى بقوة (استعد) ذكرها عدة مرات، وبدأت أصوات النوافذ الصغيرة الموجودة في أبواب الزنازين تفتح في حركة متناسقة وسريعة، كان صوتها مزعجا جدا.

وعندما فتحوا نافذ باب زنزانتي، قال لي: (أين أنت يا حيوان؟)، فقبل أن انهض أسقط خبزا على الأرض وقطعة جبن، لم أهتم بها أبدا وتوجهت إليه وصرخت بأعلى صوتي (يا أفندي راه ما شوري شيء أمس جابوني وراهم غالطين)، كنت أظن أن هذه المناشدة قد تجعل أحد منهم يكترث لأمرى وسألني، لكن لم يحدث سوى أن دخل عليّ أحد العناصر وقام بضربي”.

وبقيت في مكاني واضطررت لاستخدام الجردل، وتناولت الخبز والجبن، وبكيت كثيراً، أريد أن أطرق الباب وأخاف من الضرب، و أخاف أن أمضي ليلة أخرى في هذا المكان، كنت متأكدا أن هناك من سيبحث عني وسيجدني وسأخرج فأنا لم أفعل شيء على الإطلاق، وقبل أن يحل الظلام في الزنزانة، سمعت ذات الصوت والجلبة، وشخص أخر ينادي بصوت جهور على الجميع الاستعداد، فوقفت أمام نافذة باب الزنزانة، مددت يداي لصحن معدني به مكرونة وشيء من السّلَطة، كنت متحمسا للأكل، إلا أن مذاق الطعام كان يبدو غير جيد على الإطلاق، إلا أنني أكلته من شدة الجوع”.

وبعدها بساعات وحينما حلّالظلام بالمكان، وعم الهدوء ما حولي، بدأت اسمع لذات الأصوات التي سمعتها عند بداية دخولي للسجن، كانت صراخا ممزوجة بأصوات أخرى، لا أعرفها، إلا أن الصراخ كان واضحا يمكن أن أؤكد بأنه كان صراخا، يأتي من بعيد، كان الخوف قد تربع في صدري، كنت أسال نفسي وأحدثها، حتى جاءت أصوات أخرى قريبة، وكانت حركة لمجموعة من العسكر، وفتحوا عليّ باب الزنزانة وكنت سعيداً لأنني ظننت أنني سأحال للتحقيق، وسأخرج منها، فانهالوا عليّ أربعة أشخاص اثنين منهما يحملان أنبوبا وبدأوا يضربونني ضربا مبرحا، إلى أن توقفوا عن الضرب وسألني أحدهم كان ضخم القامة، مخيفا في هيئته وقال لي هذه العبارة (تبي حار حار يا داعشي ولا كفوف لعند ما يتورم وجك)، فقلت له: (يا أفندي راكم غالطين أنا مش داعشي جابوني من البوابة…) وقبل أن أنهي ما بدأته انهالوا عليّ بالضرب وكانت لحظات أقسي وأصعب من الليلة الأولى في السجن”.

.

البقية في الجزء الثاني

________________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *