بقلم د. محمد عبدالرحمن بالروين

بداية قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم، وهو يطلع على هذه المقترحات (التي قمت بتقديمها إلى أعضاء الهيئة خلال أعمالها منذ بداية عام 2014)، والسؤال البديهي والمنطقي الآتي:

لماذا الآن؟ أي لماذ لم تقم بنشر هذه المقترحات عند تسليمها للجان المختلفة، أو عند توزيعها على أعضاء الهيئة؟

والحقيقة أنه سؤال وجيه، ومنطقي، والإجابة عليه تكمن في اجتهادي الشخصي بتغليب المصلحة الوطنية العامة على أي مصالح أخرى، والسعي الجاد والصادق للوصول إلى توافقات يقبل بها الجميع.

وأيضا الحرص الصادق (من جانبي على الأقل) على محاولة، إبعاد السياسة قدر الإمكان (وخصوصا المناكفات الفكرية، والأيديولوجية، والحزبية، والجهوية) على نقاشات ومداولات الهيئة، لأن القضية الدستورية ـ في اعتقادي ـ تهم الجميع في هذا الوطن بغض النظر عن معتقداتهم، وأفكارهم، وأرائهم، واجتهاداتهم، والمناطق التي جاءوا منها.

من هذا الفهم البسيط، وانطلاقا من تغليب الصالح العام، وإعتقادا مني بأن الأعضاء يمثلون كل الليبيين، في ربوع الوطن، وليس مجرد مناطقهم، ولا دوائرهم الإنتخابية، قبلت أنا شخصيا بالكثير من القرارات والإجراءات والخيارات التي اتخذها زملائي أعضاء الهيئة مجمتعة بالرغم من اعتراضي الشديد علي الكثير منها ـ ولعل من أهم الأمثلة على ذلك الأتي :

أولا: الطريقة التي تم بها تكوين وتشكيل ما عرف بـ لجنة العمل“.

هذه اللجنة في الحقيقة هي فكرة مخالفة لكل ما تم الإتفاق عليه بين الأعضاء، ولا وجود لها في اللائحة الداخلية للهيئة! فقد نصت اللائحة الداخلية في المادة (81) على تشكيل لجنة فنية لصياغة مخرجات اللجان النوعية كالآتي:

تشكل لجنة فنية لصياغة مخرجات كل لجنة نوعية في نصوص دستورية محكمة من عدد من الأعضاء ويراعى فيها التخصص المتعلق بالصياغة ولها في سبيل ذلك الاستعانة بمقرري اللجان النوعية لتوضيح أي إبهام، وعند حصول خلاف بين لجنة الصياغة وإحدى اللجان النوعية يعرض الأمر في جلسة عامة للهيئة لإتخاذ قرار بشأنها.

والحقيقة المرة أن كل ما ذكر في هذه المادة وغيرها تم تجاوزه من قبل لجنة العمل دون مناقشة، ولا استشارة، ولا إعطاء مبررات أو أسباب بمكن الرجوع إليها، وبرغم من أن اللائحة الداخلية للهيئة قد نصت أيضا في مادتها (86) “على جميع أعضاء الهيئة بما في مكتب راستها، الإلتزام بأحكام هذه اللائحة وعدم مخالفتها.”

ثانيا: المثال الثاني (على قبولي شخصيا الكثير من القرارات التي اتخذها زملائي أعضاء الهيئة مجتعة بالرغم من اعتراضي عليها) يتعلق بقضية تحول النقائ والمداولات في الهيئة على أساس إقليمي جهوي مصلحي صرف. وقد بدأ هذا التوجه بإقتراح عقد جلسات تشاورية على أساس الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان!) ونتج عن ذلك إقتراح تشكيل ما عرف اصطلاحا بت لجنة العمل، واختيار أعضائها على أساس المحاصصة الجهوية (اربع أعضاء من كل منطقة يتم اختيارهم بالإنتخاب السري من كل أعضاء الهيئة!).

والأغرب من ذلك هو اعتبار ما ستتوصل إليه هذه اللجنة من مخرجات هو المقترح الأساسي والرئيسفي النقاشات والمداولات المستقبلية للهيئة مجتمعة.

وبالرغم من كل هذه التجاوزات وغيرها الكثير، قبلتُ بكل ذلك بالرغم من رفضي المشاركة فيها، وذلك حرصا مني على إنجاح المخرجات النهائية للهيئة، والسعي الجاد للوصول إلى دستور ديمقراطي توافقي يلبي طمحوات كل الليبيين.

ولكن المفاجئة كانت عندما قدمت لنا لجنة العملمخرجاتها النهائية وللمرة الثانية للأسف الشديد، كانت مخيبة للآمال وعكس كل التوقعات الموضوعية والمنطقية. والأكثر من ذلك، أنها كانت بدون المبررات، ولا الأسباب التي قادت وأقنعت أعضاء هذه اللجنة لإختيار مخرجاتهم دون غيرها، ولا حتى معرفة الكيفية والآلية التي تم اتخاذ القرارات بها.

وبعد أن استلمت نسختي من هذه المخرجات، اتصلت برئيس اللجنة السيد المحترم الدكتور محمد الجيلاني البدوي، وبعض أعضاء اللجنة، واستفسرت منهم عن الأسباب وراء عدم تزويدنا بالمذكرة التوضيحية الشارحة لهذه المخرجات (إعتقادا مني أن ذلك قد سقط منهم سهوا أو أنها ستأتي لاحقا).

ولكن وللأسف الشديد استغربوا مني هذا الطلب، واستهجنوا هذا السؤال!. وعندما رفضوا القيام بذلك واكتشفت بأنه ليس لديهم مذكرة شارحة، ولا محاضر للجلسات مفصلة ومعتمدة (إلا كما قال رئيس اللجنة، عندما سألته يمكنك الإطلاع على التسجيلات لإجتماعات اللجنة)، وبعد أن أيقنت بأنه ليس في مخططهم القيام بذلك، قررت أن أخاطبهم رسميا برسالة مفتوحة عنوانها: “احترموا عقول زملائكم في الهيئة أيها السيدات والسادة، في يوم الاربعاء بتاريخ 17 فبراير 2016، أكدت فيها على مجموعة من النقاط لعل من أهمها الأتي:

“ … انطلاقا من إيماني وحرصي على إنجاح مشروع الدستور الذي هو أمانة في أعنقنا جميعا كأعضاء للهيئة، فإنني أطلب من حضرتكم تزويد الهيئة مجتمعة، والرأي العام بالآتي:

أولا ـ تزويدنا بالمذكرة التوضيحية الشارحة لكل مادة مقترحة في مخرجات لجنتكم الموقرة، متضمنة آليات عملكم، وكيفية اتخاذ قراراتكم (خصوصا بعد ان استقال عضوين من لجنتكم دون رجوعكم للهيئة مجتمعة لاستبدالهم!)، وماهي مبررات اختيار كل مقترح أو مادةفي مخرجاتكم والثانية، وهل كان قراركم بخصوص كل مادة بالإجماع؟ أم كان بالتوافق؟ أم كان بأغلبية الحاضرين من أعضاء اللجنة؟ وإذا كان بالأغلبية، فكم كانت هذه النتيجة (أي من الذي صوت معها ومن الذي صوت ضدها؟)

ثانيا: ما هي الأسس والخطوات المنهجية والموضوعية التي استخدمتوها في اختيار وتفضيل مقترحات لجنتكم، ورفض الملاحظات، والانتقادات، والاقتراحات البديلة، التي وصلتكم من بقية الاعضاء، ومن أشخاص ومؤسسات ومنظمات محلية ودولية أخرى، حول مقترحات لجنتكم الأولى! وأنا على يقين بأن أكثر من ثمانية وسبعين (78) مقترح قد وصلكم من شخصيات وطنية، وأعضاء، ومنظمات دولية، ومؤسسات وطنية ومجتمع مدني.

وكنتيجة لهذا الكم الكبير من المقترحات التي وردت إليكم، قمتم (وقد يكون معكم الحق في ذلك) بطلب تمديد مدة عملكم في المرحلة المتاحة لكم حسب قرار تشكيل اللجنة، وذلك لأن المدة في نظركم كانت غير كافية للقيام بما يجب القيام به، وقَبل منكم الأعضاء (وأنا من بينهم) هذه المبررات، وتم تمديد مدة عملكم.

ولكن هل يعقل، وبعد أن أخذتم أكثر من أربعين (40) يوما من العمل (بدلا من 10 أيام) أن ترفض جل هذه الملاحظات، والانتقادات، والاقتراحات البديلة، دون تبرير ولا تعليل؟ والأجابة في اعتقادي ستكون، عند كل العقلاء، بالتأكيد لا!

فهل يعقل، على سبيل المثال لا الحصر، أن تفرض كل المواد المقترحةالواردة في التقرير النهائي للجنة التواصل والتوافق مع المكونات. والذي تقدمت لجنة التواصل والتوافق التي شكلتها الهيئة، للتفاوض مع المكونات؟ بالرغم من أن كل أعضاء الهيئة الذين شاركوا في اجتماعت مدينة غدامس قد أخذوا قرار تعهدوا فيه بالإلتزام بما سيرد في هذا التقرير والأخذ بكل ما ستتوصل إليه هذه اللجنة مع المكونات! وأن تكون هي أول المواد المقترحة للتداول والنقاش من قبل الهيئة مجتمعة.

ثالثا: هل يعقل أيضا، بالرغم من وضوح المادة (5) من قرار لجنة العمل وصراحتها وعدم قابليتها للشرح والتداول، والتي تنص في فقرتها (4) بأن تعتمد اللجنة في عملها المقترحات والأراء المكتوبة المقدمة من أعضاء الهيئة.”

لكن للأسف الشديد بالرغم من حضور ست عشر (16) عضوا من أعضاء الهيئة شخصيا، لشرح أفكارهم ومقترحاتهم والدفاع عنها ومطالبة اللجنة بتبنيها، أو اعتبارها (على الأقل) “نص بديل لمقترحات اللجنة“.

إلا أن اللجنة رفضت اعتماد فكرة نص أساسيو نص بديلبخصوص أي مادة من المواد، أو حتى بخصوص الديباجة” “ التي رفض بعض أعضاء اللجنة، ذكر ثورة 17 فبراير فيها، وكأن هذا الحدث التاريخي والعظيم، هو مجرد حدث عابر، أو نكبة أو كارثة، كما يريد البعض وصفها؟!

ألم تنص الفقرة الثالثة من المادة الثامنة، من قرار الهيئة رقم (17) لسنة 2015، بأنه عن تعذر الوصول لى التوافق أو النصاب المحدد للتصويت داخل اللجنة يتم اعتماد نص أساسيو نص بديل لهوفق الخيارات المطروحة حول الموضوع. “لم ترتق الخيارات المطروح في نظركم إلى مستوى النص البديل لمقترحكم“.

الرجاء، بكل صدق، شرح هذا الأمر وتوضيحه لنا ولأهالينا وللتاريخ ..”

واختتمت هذا الرسالة بالآتي: “ … وعليه أيها السيدات والسادة الكرام أعضاء لجنة العمل، إذا لم تقم لجنتكم المحترمة بالإجابة على الاستفسارات المذكورة أعلاه، فأنا شخصيا، ومع احترامي الشديد لكم، وتقديري لمجهوداتكم، فإنني لن أعترف بهذه المخرجات، ولن أعتبر ما توصلتم إليه المقترح الأساسيالذي سيتم التداول والتصويت عليهكما تنص المادة (9) من قرار الهيئة رقم (17) لسنة 2015. وذلك لأنكم لم تستطيعوا الوصول للهدف المنشود والذي كان من المفترض (وفق قرار تكليفكم من الهيئة) لن تكون هذه المخرجات نسخة منقحة لمخرجاتكم الأولى بعد استلامكم ودراستكم لكل الملاحظات، والمقترحات، والانتقادات، التي وصلتكم من بقية الأعضاء حول مقترحاتكم الأولى ..”

وأخيرا عندما قامت الهيئة بتشكيل لجنة عرفت بـ لجنة التوافقات بين الأعضاءتقدمت لها أيضا، يوم 8 مايو 2017، بمذكرة تضمنت 22 قضية دستورية، ومقترح للمقدمة، وقد اجتمعت مع أعضاء هذه اللجنة في ذلك اليوم لمدة ساعتين، أجبت فيها عن أسئلة، واستفسارات كل الأعضاء، وكان الجميع ممنون من هذا اللقاء والقضايا التي تم طرحها فيه.

وفي الختام وبعد الملاحظات التمهيدية ، لعله من المناسب أن أذكر القارئ الكريم بالمنهجية، التي اتبعتها في التعاطي مع القضايا والمصطلحات الدستورية، خلال مشاركتي في أعمال هذه الهيئة انطلاقا من أربع مبادئ أساسية هي:

أولا: مبدأ الوضوح ـ بمعنى ضرورة أن يكون النص الدستوري واضحا. وما أقصده بالوضوح هنا هو أن الأغلبية العظمى من القراء لا يختلفون على معنى المصطلح الدستوري.

ثانيا: مبدأ البساطة ـ بمعنى يجب عدم تعقيد المبسط، والسعي لتبسيط المعقد. وبمعنى آخر يجب البحث على المصطلحات البسيطة وغير المركبة أو غامضة.

ثالثا: مبدأ الإقتراب ـ بمعنى ضرورة الإيمان بأنه كلما كانت الخدمات قريبة من المواطن، كلما كانت السلطة أنجح وأحسن وأفيد. وبمعنى آخر أن كل ما يسعى إليه ويطلبه المواطن من الدولة هو أن تكون مدرسة أولاده قريبة من بيته، وأن يكون المستشفى قريب من مرضاه، وأن تكون خدماته المعيشية قريبة منه وفقا لإمكانياته، وأن يكون مأتمن في بيته، ومصان في عرضه وماله.

رابعا: مبدأ التنوع من خلال الوحدة ـ بمعنى العيش في دولة موحدة ومتحدة ولكن في داخلها تنوع وتنافس واختيارات متعددة. فمثلا مصطلح الشعب الليبييجب ألا يعني بالضرورة جنس واحد، ولا عرق واحد، ولا لون واحد، وإنما يشمل العرب والأمازيغ والطوارق والتبو والشركس والقريتلية والأواجلة والكراغلة والأفارقة وكل الأجناس الأخرى التي تعتبر نفسها جزء من الشعب الليبي. ولكل هذه الأجناس والأعراق الحق في أن تتنافس لتحقيق الحلم الليبيوأن تسعد في هذا الوطن كغيرها من الأجناس الأخرى.

وانطلاقا من هذه المبادئ الأساسية الأربعة حاولت خلال مرحلة عمل الهيئة أن يكون تركيزي ـ بالدرجة الأولى ـ على مجموعة من الأهداف الوطنية لعل من أهمها:

ـ تحقيق العدالة للجميع: وهذا يتطلب ضرورة العدالة في توزيع السلطة والثروة وذلك لأن السلطة والثروة ـ في نظري ـ هما وجهان لعملة واحدة.

ـ تحقيق التمثيل النسبي: بمعنى ضرورة مزاوجة التمثيل العددي مع التمثيل الجغرافي المناسب، وذلك لتحقيق المشاركة السياسية الفاعلة للجميع، في اتخاذ القرارات الوطنية وخصوصا السيادية منها.

ـ تحقيق السلطة المحلية: بمعنى ضرورة تمكين السلطات المحلية من المشاركة الفعلية والعملية في آليات اتخاذ القرارات خصوصا في الأمور التي تخصها، ومتعلقة بمناطقها. وذلك باعتبار السلطة المحلية هي السلطة الرابعةفي الدولة (وهذا يعني بالإظافة للسلطات الثلاث ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة هناك سلطة محلية).

بعد هذه الملاحظات التمهيدية المختصر، سأعرض على القارئ الكريم بعض هذه المقتحرات، التي تقدمت بها لأعضاء الهيئة (كحلول للإشكاليات الجوهرية، والتي لاتزال عالقة في مشروع الدستور) خلال المرحلة الماضية ومنذ الأيام الأولى لإنعقاد الهيئة، وذلك مساهمة مني في صناعة دستور وطني توافقي ديمقراطي يلبي طموحات كل أبناء الشعب الليبي في كل ربوع الوطن.

وعليه في الصفحات التالية سأعرض وأناقش أهم هذه الإشكاليات والحلول المقترحة لحلها.

***

للأطلاع على التقرير كاملا اضغط (هنا)

***

محمد عبدالرحمن بالروين ـ ممثل عن مصراتة في الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور

حرر في مدينة البيضاء بتاريخ 3 مارس 2018

_____________

مواد ذات علاقة