بقلم كريم ميزران و إيرن نيل

يطغى الارتباك والفوضى على الوضع في ليبيا، وهو ما يدفع الكثيرين للخوف من أن يكون مصيربلادهم مماثلا للصومال.

وفي كل مستوى، يمكن تبين وجود انقسامات دائمة وعداوات متغيرة، التي تتسبب بدورها في إنشاء اقتصاد غير مشروع راسخ ومتوسع، فضلا عن زيادة عدد الجماعات المتطرفة والصدامات المطلقة مع الفصائل المسلحة في جميع مناطق البلاد تقريبا.

الجزء الأول

على الرغم من سعي العديد من الأطراف الفاعلة على المستويين المحلي والدولي إلى إبرام صفقة تقود إلى تحقيق الاستقرار في البلاد، إلا أن معظمهم واجه صعوبات كبرى بسبب تفضيل عدد كبير من هذه الجهات الفاعلة بقاء الوضع كما هو كي يتمكنوا من تحقيق أهدافهم الربحية.

منذ سقوط نظام القذافي الاستبدادي سنة 2011، أضحى الوضع السياسي أكثر تعقيدا، وهو ما يشير إلى حالة من الجمود بين مختلف القوى.

تشهد ليبيا حاليا تواجد حكومتين متنافستين على الأقل.

وتتمركز الأولى في مدينة البيضاء بقيادة رئيس الحكومة الليبية المؤقتة في الشرق عبد الله الثني، وهي تحظى باعتراف مجلس النواب الليبي الذي يقع مقره في مدينة طبرق الشرقية، والذي تم انتخاب أعضائه سنة 2014.

والجدير بالذكر أن مجلس النواب يدعم المشير خليفة حفتر، الذي بدأ حملة عسكرية سنة 2014 انتهت بسيطرته على مساحة كبيرة من الأراضي شرق ليبيا من خلال الاستعانة بالتحالف الذي يضم العديد من الجماعات المسلحة ويعرف باسم القوات المسلحة الليبية.

أقام حفتر في الولايات المتحدة الأمريكية طوال 25 سنة قبل بزوغ فجر ثورة سنة 2011 في ليبيا. وبصفته جنرالا في عهد القذافي، انشق حفتر عن النظام الليبي سنة 1987 بمساعدة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ليتمكن بذلك من الانتقال إلى العاصمة الأمريكية واشنطن.

ومن جهته، عمل مجلس النواب الليبي على تعيين المشير خليفة حفتر قائدا للحكومة التي كانت تحظى بالاعتراف الدولي آنذاك خلال شهر آذار/ مارس من سنة 2015.

 على الرغم من انتخاب مجلس النواب الليبي بشكل شرعي في إطار انتخابات نزيهة وشفافة سنة 2014، اختار المجتمع الدولي الأمم المتحدة واعتبرها المنبر الرئيسي لخوض جملة من المفاوضات. وأدت هذه المفاوضات إلى انبثاق الاتفاق السياسي الليبي سنة 2015، ليقود ذلك إلى تأسيس حكومة وحدة وطنية في العاصمة طرابلس.

ونتيجة لذلك، وقع تشكيل المجلس الرئاسي بواسطة تسعة أعضاء، وكان يعتبر أعلى سلطة في البلاد أثناء سن بنود الاتفاق.

تم تعيين فايز السراج رئيسا للمجلس الرئاسي، وهو ما يجعله رئيس الوزراء الليبي ورئيس حكومة الوفاق الوطني، اللذان يقع مقرهما في مدينة طرابلس.

وعلى الرغم من حصول الاتفاق السياسي الليبي على توقيعات من طرف شخصيات من شرق وغرب البلاد، لم يعترف مجلس النواب الليبي بحكومة طرابلس، وهو ما وضع أسس هذه العداوة بين الطرفين.

بالإضافة إلى الانقسام بين الشرق والغرب، تمتلك حكومة الوفاق الوطني نفوذا محدودا في طرابلس نفسها. وعندما قدمت هذه الحكومة إلى العاصمة الليبية في مطلع سنة 2016، عملت على التفاوض حول إقامة تحالف للجماعات المسلحة لتأمين مقراتها وتشكيل قوة أمنية من أجل ليبيا.

وعلى الرغم من أن هذه الجماعات مرتبطة بشكل رسمي بحكومة الوفاق الوطني، إلا أنه بات جليا أنها عاجزة عن إصدار الأوامر لهذه الميليشيات.

عوضا عن ذلك، تلتزم الجماعات المسلحة بحماية حكومة الوفاق الوطني من أجل تمكينها من الحفاظ على سير عملياتها التي تجري في إطار اقتصاد غير مشروع ومربح، والذي ازدهر خلال السنوات السبع الماضية.

وتحولت الجماعات المسلحة في كامل البلاد، وليس فقط في العاصمة طرابلس، إلى مزيج من الميليشيات والشبكات الإجرامية من خلال السيطرة على طرق تهريب النفط والمخدرات والمهاجرين القادمين من الدول الإفريقية المجاورة.

علاوة على ذلك، تدير هذه الجماعات مراكز احتجاز شبيهة بالسجون لإيواء المهاجرين مقابل عائد مادي.

يتضمن الغرب حكومة دون جهاز أمني وجهازا أمنيا لا يمتثل لأي هيئة منتخبة بشكل شرعي، مما يسمح له بالعمل دون مراعاة حقوق الإنسان.

ونظرا لأن الحكومة عاجزة عن القيام بواجبها المتمثل في حماية المواطنين، وهو ما يسمح للميليشيات بسد هذا الفراغ والتصرف كما لو أنها غير قابلة للمساس.

في الوقت ذاته، يتحكم المشير خليفة حفتر بحكومة الشرق بطريقة استبدادية، ويحدوه الأمل في رؤية ليبيا بأكملها تحت سيطرته. وعلى الرغم من أن القوات المسلحة الليبية تبدو متماسكة، إلا أنها تفتقر إلى الموارد المالية والبشرية.

وعموما، يمكن اعتبار الشرق أكثر أمانا نسبيا من الغرب، إلا أن السكان لا يزالون يمتلكون مخاوف جدية بشأن تعرضهم لهجمات مستمرة من طرف جماعات مثل تنظيم الدولة.

الأطراف الدولية الفاعلة في ليبيا منذ سنة 2011

تبنت الأمم المتحدة مخططات مصالحة طموحة تركز على هيكل سياسي عالي المستوى. وتمحورت هذه المخططات حول معتقد مفاده أنه بمجرد توصل الفصائل العليا إلى اتفاق لإنشاء نظام لتقاسم السلطة والتمثيل، سيحظون بدعم المواطنين ويتمكنون من إنشاء نسيج مجتمعي بفضل الحماس الذي سيتولد حول نظام الحكم الجديد والموحد.

في المقابل، أخفق هذا النهج العمودي الذي تفضله الأمم المتحدة لعدة أسباب. ويرجع ذلك بالأساس إلى تعمد بعض الأطراف الفاعلة على المستوى المحلي، والتي لطالما استفادت من الفوضى، إفشال جهود المصالحة فضلا عن تعزيز دورها الفعال داخل المجتمع من خلال توفير الأمن في الوقت الذي كانت تعجز فيه الحكومة المركزية عن توفير ذلك.

كما يعزى تعثر هذه المفاوضات، إلى أنه على الرغم من مشاركة الأمم المتحدة في هذا الصراع، إلا أن ليبيا لم تمثل أولوية بالنسبة للدول الغربية الكبرى أو الدول المجاورة التي تمتلك مصالح قوي مع ليبيا، مثل الجزائر. وبشكل غير مفاجئ، فشلت الاتفاقيات الضعيفة التي تم اقتراحها معا، نظرا لعدم استعجال الدول المجاورة والقوى الغربية لإيجاد حل لمعالجة الصراع الليبي.

بشكل مستغرب، توجه الكثيرون إلى التركيز على التأثير المباشر للأزمة الليبية على القارة الأوروبية من خلال وصول مئات الآلاف من المهاجرين.وخير مثال على ذلك،إصرار المجتمع الدولي على إنشاء حكومة الوفاق الوطني التي كانت ضعيفة منذ البداية وتفتقر إلى جهاز أمني قوي.

تكمن المفارقة في أن تركيز الأطراف الدوليين على المشاركة من خلال دعم قادة معينين في صلب القيادة العليا يعد العامل الأكبر الذي ساهم في تكوين الدوامة التي دخلها الصراع الليبي منذ سنة 2011. وفي هذا السياق، قدمت كل من الإمارات العربية المتحدة ومصر دعمهما إلى حفتر، في حين تلقت الجهات الفاعلة الأخرى على الأرض دعما من طرف قطر وتركيا. ونتيجة لذلك، شهدت ليبيا وضعا لا يوجد فيه طرف رابح وآخر خاسر، وهو ما أدى إلى ترك الليبيين دون حكومة فاعلة.

بديل؟

وقع عرض النهج القائم على المقاربة التصاعدية الذي يعترف بحاجة السلطات المحلية للقيام بدور رئيسي في نظام الحكم، على أنه الحل الأكثر فاعلية بالنظر إلى الوضع الحالي الذي تشوبه الانقسامات. وبشكل عام، لا يمكن تطبيق حل الحكومة الفدرالية في ليبيا، بل يجدر بهم اعتماد نظام نقل الصلاحيات والمسؤوليات من المركز نحو المدن المحيطة به.

ويمكن لهذا النهج القائم على معالجة الأمور وفق مقاربة تصاعدية أن يصبح فكرة مقبولة بشكل أكبر لدى الليبيين الذين تساورهم الشكوك إزاء ما تقدر الأمم المتحدة على فعله، والذين يشعرون بالخيانة من طرف القوى الكبرى التي تدخلت في الصراع للإطاحة بالقذافي سنة 2011 ثم سرعان ما تخلت عن البلاد. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تبين وجود مجموعة أخرى من الأطراف التي تم تهميشها من قبل الحكومة المركزية خلال فترة حكم القذافي، وهو ما يدفعهم لتفضيل قيام حكومة لا مركزية.

منذ انهيار ليبيا سنة 2011، أثبتت السلطات المحلية قدرتها على الاضطلاع بمهام الحكومة بشكل أفضل من الحكومة المركزية، وهو ما أثار التفاؤل حول اعتماد هذا النظام.

وأخيرا، يمكن لمثل هذا النهج أن يكون السبيل الواقعي الوحيد لتطبيق المشروع الذي طال انتظاره، وهو تأسيس هوية ليبية متماسكة.

هل يمكن للهوية الوطنية أن تسمح بتطبيق اللامركزية؟

إن تاريخ ليبيا مع الحكم العثماني والاستعمار الإيطالي والنظام الملكي لم يفسح المجال لتكوين هوية وطنية بصفة طبيعية. وتشترك فترتا الحكم العثماني في ليبيا، اللتين امتدتا على مدار 250 سنة تفصل بينهما 120 سنة منحكم الانقلاب، في إدارة إقليم طرابلس (تريبوليتانيا) وبرقة قورينا) باعتبارهما كيانين إداريين.

كما خص العثمانيون المناطق الساحلية باهتمام أكثر وحضور مكثفمقارنة بالمناطق الداخلية. أما خلال فترة الاستعمار الإيطالي بين سنة 1911 و1947، تم إحداث إقليمثالثفي الصحراء، ألا وهو إقليم “فزان”، جنوب البلاد. وكانت الفترة الوحيدة التي تم فيها تسيير الأقاليم الثلاث ككيان إداري واحد هي خلال عهد حكومة إيتالو بالبو بين سنة 1934 و1939.

سنة 1951 تم تأسيس المملكة الليبية المتحدة تحت حكم محمد إدريس الأول، ومنذ ذلك الحين أصبحت البلاد محل أطماع الشرق والبريطانيين، التي تنامت خاصة من الغرب. وخلال تلك الفترة، كان يجب أن تكون المهمة الأولية لكل من الحكومة والنخبة الحاكمة التركيز على وضع حد للانقسامات الاجتماعية وتوحيد صفوف البلاد من خلال ترسيخ الشعور بالهوية الوطنية في صفوف الشعب الليبي. لقد كان الملك إدريس الأول رجلا صادقا وورعا، ولكنه في مقامه كملك لم يضطلع بالمهمة التي كانت موكلة إليه، وإنما كان يركز جل اهتمامه على المسائل الدينية بدلا من الالتفات لشؤون الدولة اليومية.

عندما وصل القذافي إلى السلطة سنة 1969، تمحورت رؤياه لمستقبل ليبيا حول القومية العربية ليركز فيما بعد على الوحدة الأفريقية، وهو ما حال دون تأسيس مؤسسات دولة قوية من شأنها حشد الليبيين حول رؤية وطنية موحدة.

وقد مكنت هذه الإستراتيجية القذافي من البقاء على رأس الدولة ولكنه في المقابل فشل في تشكيل الهوية الليبية. برز شعور حقيقي “بالانتماء الليبي” في بداية الألفية بفعل التحضر والتفاعل المتواصل بين مختلف أطياف الشعب، بيد أن هشاشة مؤسسات الدولة ظلت عائقا أمام تشكل هوية وطنية، وهو ما أصبح جليا باندلاع ثورات 2011. وبما أن تجزئة البلاد بدأت قبل إمساك نظام القذافي بزمام السلطة، فإنه من الضروري معرفة ما إذا كانت المقاربة التصاعدية ملائمة لليبيا في ظل الوضع الراهن.

البقية في الجزء الثاني

***

كريم ميزران ـ زميل كبير مقيم في مركز رفيق الحريري التابع للمجلس في الشرق الأوسط

إيرن نيل ـ مساعد باحث بمركز الشرق الأوسط وكاتبة في مجالات التنمية الأمنية وخاصة عن ليبيا والجزائر وتونس ومصر

 ______________

مواد ذات علاقة