بقلم علي عبداللطيف اللافي

لا شك أن ترتبات الوضع الليبي خلال الفترة القادمة ستكون حاسمة قبل وبعد موعد  المؤتمر الدولي في “باليرمو” الإيطالية (12-13 نوفمبر/تشرين الأول المقبل).

بل أن تلك الترتبات قد تغير المشهد السياسي في عدد من دول الجوار وبعض الدول العربية كما ستكون مؤثراتها متعددة على بعض الدول المتوسطية في جنوب القارة الأوروبية باعتبار أن السؤال الأهم والأساسي اليوم – بعد التغيير الحكومي الأخير وفي انتظار استكمال المسارات الثلاث لعمل البعثة الأمميةما هي أجندات مختلف الأطراف في المؤتمر وبناء على نتائجه، في ظل وجود زعامات سياسية محلية ضيقة الأفق الاستراتيجي إضافة الى بعض أطراف إقليمية ودولية لا ترى في تكاتف الليبيين ووحدتهم بعين الرضا؟

مُحددات مواقف الأطراف الاقليمية والدولية

أ أغلب القوى الدولية ترغب في نجاح الحكومة المقبلة وستسعى لدعمها بغض النظر على اختلاف القوى الدولية فيما بينها على الأجندات المستقبلية في ليبيا أو تفاصيل برامجها أو مدى الرضا عن حجم تواجد الإسلاميين في السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ب الدول الأوروبية حسمت أمرها في الدعم الكلي للحكومة المقبلة باعتبارها سيكون مرضيا عنها من طرف جميع الليبيين، وذلك بهدف أن تتحكم فعليا في الهجرة غير الشرعية ومدى قدرتها على المعالجة الشاملة للظاهرة الإرهابية والإجرامية من عدمه.

ت سيبقى الدور الجزائري حاسما في استقرار الاوضاع في ليبيا بل وستكون الجزائر حصنا منيعا ضد أي إرباك للمسارات المستقبلية للدول المغاربية، لأن ذلك جزء من استراتيجية سياساتها الخارجية ولقاحا أساسيا لعدم زعزعة استقرارها الداخلي.

ث ألهمت التجربة التونسية بغض النظر على نسبية نجاحها في تحقيق أهداف ثورتها والتي لم تستكمل مهامها بعد، القوى الدولية والفاعلين السياسيين في ليبيا وخارجها أنه يمكن بناء حكم تشاركي وتوافقي مبني على نتائج الانتخابات في البلدان العربية وخاصة المغاربية بالذات.

من يُريد عدم توصل المؤتمر الدولي لنتائج ملموسة؟

عديدة هي الاطراف التي تسعى جاهدة كما بينا اعلاه لإرباك الوضع الليبي وإعاقة تنزيل نتائج المؤتمر الدولي أو حتى ارباك أشغاله:

أولا: أطراف دولية

رغم أن القوى الدولية حسمت أمرها في اتجاه تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات واسعة، إلا أن عوامل وتطورات لاحقة قد تجعلها تتراخى في الدعم، أو في الانجرار وراء قوى إقليمية تسعى لإرباك ليبيا مجددا في حد أدنى وهو أمر وارد بناء على تجارب سابقة خلال العقود الماضية أو من خلال استقراء السياسات الدولية في التجربتين العراقية والسورية.

ومن خلال استقراء مسارات التفاعل مع الأوضاع اليمنية رغم اختلاف المحددات والخصائص الجيوسياسية في الحالة الليبية، إضافة لمواقف الإيرانيين والروس وهما عمليا لاعبان جديدان منذ أكثر من سنوات ثلاث في الملف الليبي حيث أن سياساتهما تجاه الملف يكتسيها نوع من الغموض بغض النظر عن التصريحات الدبلوماسية أمام كاميرات القنوات والشبكات التلفزية.

ثانيا: أطراف إقليمية

عديدة هي الأطراف الإقليمية التي تسعى لإرباك الاوضاع في ليبيا مجددا بغض النظر عن مواقفها الدبلوماسية المعلنة:

ـ النظام المصري

لن يكون النظام المصري بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي مُرتاحا لنجاح المؤتمر الدولي رغم تراجعات مواقفه الاخيرة، خاصة أن الحكومة الجديدة لن تكون تحت رعايته ولن تحتاج لدعمه اللوجستي ولن يستأثر بعطايا برامجها وخاصة الاقتصادية منها، خاصة بعد تراجع دور اللواء المتقاعد خليفة حفتر والذي سيكون موجودا كلاعب في المشهد المقبل ولكن بشروط الآخرين وليس بشروطه.

ـ الإمارت

تعتبر الإمارات ثاني الأطراف التي لن تكون مرتاحة لتوافق الليبيين وتقدم الحكومة التوافقية في بسط هيمنتها، ورغم أن الامارتيين لن يكونوا معارضين واضحين للسياسات الأمريكية والأوروبية، فإنهم لن يكونوا مرتاحين لنجاح الحكومة بسبب تواجد إسلاميو ليبيا في تركيبتها، ولن تكون رؤيتهم للتعامل معها بعيدة عن رؤيتهم للحكومات التونسية ما بعد 2014.

ـ قطر وتركيا

ربط “الأتراك بالقطريين” هو ربط موضوعي لتحالفهم السياسي والاقتصادي والذي بلغ درجة من التحالف الاستراتيجي، و هذا التحالف المُعلن تراجع دوره منذ 2015  في الملف الليبي وهو تحالف  يتحرك بهدوء وسيسند واقعيا الحكومة القادمة وسيعمل على نجاحها نتاج حسابات إقليمية وطبيعة قراءاته للأوضاع الدولية الراهنة.

ـ أنصار القذافي

أولا، لا يمكن الجزم أن أنصار القذافي في ليبيا حاليا هم وحدة متكاملة من حيث الرؤى والتوجه والولاء أو من خلال رؤيتهم لمستقبل ليبيا، فبعض أنصار القذافي يرون في قراءتهم للوضع الحالي أنه يمكن ترتيب الأمور لصالح سيف القذافي، وفي هذه النقطة بالذات ينقسم أنصار القذافي إلى عدة أطراف:

، الأول يرى في سيف منقذا للبلاد (!!)

الطرف الثاني يرى في ذلك تكتيكا أوليا في طريق عودة نظام القذافي (!!!) باعتبار أن الغرب في تحليلهم طبعا ليس له أي إشكال مع سيف القذافي بل هو ورقة غربية قديمة.

الطرف الثالث يرى في نجاح الحكومة القادمة سبيلا أن تسترد بعض قبائل محسوبة عليهم حقها وانه لا يجب معاملتها بناء على قربها السابق من معمر القذافي، وهؤلاء يرون أن المصالحة الحقيقة هي في بناء جديد يدفن آلام الماضي

الخلاصة أن أنصار القذافي مُشتتون ومُختلفون وقوتهم بشرية ومادية لوجستية، وأنه لا أمل لهم في إفشال التوافق الليبي رغم هامش قوة مقتدر ولكنه نسبي على إرباك الحكومة ما بعد مؤتمر “باليرمو”، و الأكيد أيضا أن قطاعات واسعة من أنصار القذافي مؤمنة حاليا بما قاله رجل المخابرات القوي في عهد القذافي عبدالله السنوسي لقبيلة المقارحة سنة 2015 في سجنه “عهد القذافي انتهى وولى ولن يعود وعليكم القبول بذلك والمشاركة في المسارات الجديدة.

ـ بعض مكونات طرفي الصراع

إن كل من طرفي الصراع ليس وحدة متكاملة كما يعتقد البعض ولكن كُل منها يضم مكونات لا ترى في نجاح مؤتمر “باليرمو” تحقيقا لأهدافها

أـ مكونات ما يعرف بالحكومة المؤقتة

وهي مكونات تشمل حوالي خمس مكونات، بعضها ظاهر كـــ”الفيدراليين” و”مجموعة الكرامة” بقيادة حفتر، وأنصار تلك الحكومة سابقا في الجهة الغربية (وهم أيضا ليسوا وحدة متكاملة)، وأطراف لا تُرى ولا تظهر في الصورة، ومنهم مكونات سياسية ليبرالية وطبعا قيادات نظام القذافي التي لم تكن معلومة في عهده من عسكريين ورجالات الأمن الخارجي والداخلي، وطبعا بعض هذه المكونات تختلف في رؤيتها للتطورات وإيمانها بأهمية التوافق ويقينها “أن االحسم العسكري مستحيل واقعيا وميدانيا و أنه لا سبيل إلا بتشكيل حكومة لكل الليبيين.

ب ـ مكونات حكومة الوفاق الوطني

سيسعى الإسلاميون خاصة (الوطنالعدالة والبناء وحلفائهم) والفبراريون عامة، الى البحث عن توافق شبيه بالحالة التونسية للنأي بالتجربة الليبية من السقوط في براثن الاستئصال والاقصاء، وهذه الرؤية تتبناها أيضا اطراف ليبيرالية بما فيها حزب “الجبهة الوطنية” و”تجمع الوطنيون الأحرار” وبعض أحزاب أخرى صغيرة ، وبعض قوى في “حزب تحالف القوى الوطنية”، وأيضا أغلب وزراء السراج الحاليين والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والأمنيين والعسكريين وأركان المؤسسات السيادية.

أي مستقبل لتطور الأوضاع في ليبيا في أفق المؤتمر الدولي؟

بغض النظر عن التجاذبات وصعوبة المهمة بالنسبة للسراج أو من سيخلفه على رأس الحكومة الانتقالية، وبالنسبة للبعثة الأممية وتعقد تفاصيل المشهد الليبي ومفرداته العديدة والمتعددة في أفق عقد المؤتمر الدولي،  فإنه يمكن التأكيد على أن نجاح التوافق الليبي أمر محسوم بينما عمل الحكومة سيعرف صعوبات عدة ومزالق عديدة وتحديات كبرى وعوائق لا تحصى ستسعى أطراف عدة إقليمية وربما دولية إضافة إلى أطراف في الداخل الليبي، إلى العمل على توسيعها وتضخيمها، حيث أن تلك الأطراف ستلعب كل ما بقي لها من أوراق لإفساد المشهد الجديد غداة المؤتمر الدولي وخلط الأوراق و إعادة الأمور للنقطة الصفر، أو ربما أعقد مما كان عليه الوضع في صائفة 2014.

ولكن من الأكيد أيضا أن تطورات المشهد الإقليمي وطبيعة الموقع الجغراسياسي لليبيا وقربها ومن السواحل الأوربية وطبيعة التحديات الاقتصادية في دول الجوار الليبي ستدفع الجميع نحو الدفع لإنجاح عمل حكومة ما بعد مؤتمر “باليرمو” بل ومساعدتها في تنفيذ برامجها وإجراء انتخابات تغلق باب الصراعات الميدانية والعسكرية.

ولكن السلطة التنفيذية والانتقالية الجديدة ستجد بل أنها ستكون أمام تحديات جسيمة على المستوى الأمني وبناء وقيادة المؤسسات السياسية والعسكرية وترتيبات الحدود مع الدول المجاورة والعمل على إنهاء الصراع في الجنوب (أساسا بين التبو والطوارق)، ولكن أمل الشركات العابرة للقارات في الاستثمار في ليبيا ورغبة عديد العواصم الكبرى في إعادة النشاط لسفاراتها في طرابلس من أجل الظفر بعقود لكبرى شركاتها في المستقبل.

وفي الأخير فان مستقبل ليبيا بعد 13 نوفمبر/تشرين الأول المقبل سيكون واعدا من أجل عودة الوئام بين الليبيين حتى يتمكنوا من إجراء مصالحة شاملة وعادلة تدفن آلام الماضي وتوقي الصعاب عبر تشكيل سلطة تنفيذية جديدة تنهي المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات ديمقراطية وشفافة تقنع الجميع في الداخل والخارج وتكون منطلقا لإعادة بناء المؤسسات الدستورية وحتى يهنأ الليبيون كل الليبيين بغض النظر عن أحزابهم وقبائلهم ومدنهم وانتماءاتهم الفكرية والمذهبية والسياسية

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي تونسي مختص في الشؤون الافريقية

______________

مواد ذات علاقة