أ. د. الكوني علي اعبودة

فقرة ثانية: مدى شرعية ومشروعية تجميد الدائرة الدستورية من قبل الجمعية

لابد في البداية من إشارة خاطفة إلى أن مقابلة الشرعية بالمشروعية تعني في ذهني أن ما وافق القانون فهو شرعي، بصرف النظر عما إذا كان مطابقا أو لا لما يجب أن يكون، لأن اشتراط هذه الأخيرة هو المشروعية.

ولهذا يثار التساؤل عن مدى تطابق قرار تجميد عمل الدائرة الدستورية مع القانون المنظم للمحكمة العليا، وإذا كان كذلك، فهل يعد مشروعا من منظور يعد مشروعا من منظور العدالة أو حقوق الإنسان؟.

أولا: شرعية مزعومة

من يطلع على قانون المحكمة العليا رقم 6-82 في شأن اختصاصات الجمعية العمومية التي أصدرت قرار التجميد سيجد أن المادة 51 أعطت الجمعية ـ التي تتألف من رئيس ومستشاري المحكمة ورئيس نيابة النقض ـ صلاحية النظر” (…) في المسائل المتعلقة بنظامها وأمورها الداخلية وتوزيع الأعمال بين أعضائها أو بين دوائرها وغير ذلك من الأمور التي تدخل في اختصاصها بمقتضى هذا القانون أو أي قانون آخر (..)”.

فالجمعية، إذا، لا تملك إلا ما منحه لها المشرّع في قانون تنظيم المحكمة أو أي قانون آخر، وهو ما يعني أنها لا تملك خارج ولايتها المحددة حصر أي سلطة. وبالرجوع إلى القانون رقم 6، نجد أن المادة 51 المشار إليها نصت في فقرتها الرابعة على منح الجمعية ـ فضلا عما ذكر ـ الاختصاص بوضع لائحة الإجراءات الخاصة بها، كما أن المادة 55 أسندت إليها صلاحية: “تنظيم سجلات المحكمة وملفاتها وكيفية تقديم المستندات إلى المحكمة وأحوالها ردها وكيفية إطلاع الخصوم على المستندات (..)”.

كما أن الجمعية هي من يختار المستشار الذي يترأس مجلس تأديب موظفي المحكمة (مادة 41)، ولها الاختصاصات المقررة لوزارة الخدمة العامة بالنسبة لموظفي المحكمة (مدة 35)، وهي الجهة التي يحلف أمامها المستشار المعين بالمحكمة اليمين (مادة 8)، كما أن عقد المحكمة العليا جلساتها خارج مدينة طرابلس يكون بقرار من الجمعية العمومية للمحكمة (مادة 4).

ثم أضاف القانون رقم 33 لسنة 2012 ـ المعدل للقانون رقم 6 ـ اختصاصا جديدا لها بشأن تمديد خدمة رئيس ومستشاري المحكمة العليا الذين بلغوا سن التقاعد (65 سنة) إلى سن السبعين بناء على طلب صاحب الشأن، ولها أن تقرر إحالة من ترى عدم قدرته على أداء وظيفته لأي سبب ولو بدون موافقته (مادة 14 معدلة).

مما سبق يظهر أن المشرّع لم يمنح الجمعية العمومية للمحكمة العليا صلاحية تجديد عمل المحكمة أو أي من دوائرها، وهو ما أكدته محكمة استئناف طرابلس في حكمها المشار إليه أعلاه ـ والذي أيد حجج الطاعن ـ حيث جاء في القرار: “(..) فحق اللجوء إلى القضاء من الحقوق الأساسية التي يجب عدم تأجيلها أو تعطيلها وفقا لما نص عليه الإعلان الدستوري مادة 33 وكذلك كافة المواثيق الدولية (..)”.

وأضافت المحكمة حجة أخرى وهي أن المحكمة العليا نفسها كرّست مبدأ اللجوء إلى القضاء منذ 1957 بمناسبة الطعن الإداري رقم 3-6ق، عندما استلزمت في القرار الإداري أن يكون “مطابقا للدستور والقوانين واللوائح ومبادئ القانون العام كالمساواة والحريات العامة”، وهو أيضا ما قررته الدوائر المجتمعة في الطعن رقم 13 حيث اعتبرت حق الالتجاء إلى القضاء من الحقوق الأساسية.

ومن هنا أيدت نعي الطاعن بأن قرار الجمعية العمومية بتعليق عمل الدائرة الدستورية مخالف للإعلان الدستوري، كما أنه يفتقر إلى الغاية السليمة، بحسبان أن الغاية من القرارات الإدارية هو تحقيق الصالح العام فإذا خرجت الإدارة عن هذه الغاية كان قرارها معيبا (..)”.

وبالتالي استخلصت المحكمة: “(..) فتأجيل البت في الطعون الدستورية وفقا للشق المطعون فيه من قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا إلى أجل غير معلوم يعطل تحقيق المصلحة العامة ويقفل باب اللجوء إلى القضاء في المنازعات الدستورية التي يغلب عليها طابع المصلحة العامة، خاصة ما تشاهده ليبيا خلال هذه المرحلة من إزدواجية في الجهات التشريعية وكذلك الجهات التنفيذية والمؤسسات الإدارية المختلفة (..)”.

وانتهت المحكمة إلى تقرير إلغاء القرار المطعون فيه، ليس فقط لأن الطاعن سديدة وكافية، بل لأن إدارة القضايا التي تمثل المطعون ضده ـ رئيس المحكمة العليا بصفته ـ لم تناقش موضوع الطعن بل اكتفت بأن ناقشت مسألة قبوله، وهي مسألة ردتها المحكمة في مرحلة سابقة عند مناقشة طلب وقف تنفيد القرار.

كما أن مذكرة النيابة التي، وفقا للمحكمة، لم تعكس موقفا ثابتا“.فتارة يتناول الطعن من حيث الشكل والاختصاص، وتارة أخرى يسلم بحكم المحكمة فينا قضى به في الشق المستعجل، وقد انتهى الرأي فيها إلى رفض الطعن مؤسسا ذلك على أن ما يصدر عن المحكمة العليا ليس قرارا إداريا وإنما هو قرار قضائي ملزم للمحاكم الدنيا، وهو رأي غير سديد، حيث تقول المحكمة: “ذلك أن المحكمة العليا وهي تمارس عملها الإداري، من خلال جمعيتها العمومية، فإن قراراتها إما أن تكون تنظيمية متعلقة بتوزيع العمل وتنظيمه بين دوائرها المختلفة وإما أن تكون قرارات إدارية تؤثر في المركز القانوني للغير فتكون قابلة للطعن فيها بالإلغاء (..)”، لتستخلص المحكمة أن رأي النيابة غير سديد لأن قرار الجمعية صدر عنها الإدارية وخارج نطاق الوظيفة القضائية ومن ثم يكون قابلا للطعن.

وقراءة الحكم تبين أن المحكمة لم تقف عند إيراد الأسباب الضرورية لمواجهة دفاع الخصوم وتبرير الحل الذي انتهت إليه، بل محاولة إقناع محكمة الرقابة اللاحقة ـ إن حصل طعن بالنقض ـ أن ما انتهى إليه الحكم هو تطبيق لقضاء المحكمة العليا نفسها، حيث اعتبرت أنه “(..) وما التذكير بهذه الأحكام إلا لعلو قدر محكمتنا الموقرة ومكانتها المرموقة رغم الحساسية السياسية (..) ما جرأتي واستجابتي لطلب الطعن بإلغاء قرار الجمعية بتعليق عمل الدائرة هي ثمرة لفقه قضاء المحكمة العليا في المنازعات الدستورية الذي يعد من لبنات البناء في الحياة السياسية على مر الأزمنة“.

وعليه، ولما كان منوط الشرعية هو وجود نص يبرر الإجراء أو القرار، فإن غيابه في الفرضية محل البحث يقود إلى القول بأن قرار تجميد عمل الدائرة الدستورية غير شرعي.

ثانيا: غياب المشروعية

وبالنتيجة فهو غير مشروع أيضا، وأيا كان مصدر عدم المشروعية (القانون الطبيعي، أو العدالة، أو حقوق الإنسان). فالتجميد خلق أوضاعا ظالمة كان في مقدور الأشخاص الاعتراض عليها بطريق الدعوى والدفع بعدم الدستورية.

هل يمكن لظروف المرحلة الانتقالية أن تبرر هكذا قرارا؟

من يتذكر الآثار السلبية للحكم الذي صدر عن الدائرة الدستورية في شأن انتخاب مجلس النواب عام 2014 ـ والذي انتهت فيه إلى عدم دستورية التعديل السابع للإعلان الدستوري الذي انتخب المجلس على أساسه ـ قد يجد مبررا للجمعية العمومية في خشية انقسامات جديدة يمكن أن تقود أكثر إلى تصدع الوحدة الوطنية.

غير أن تجليات المرحلة الانتقالية وتقلباتها، كما عرفتها ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، لا يمكنها أن تهدم المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام القانوني في ليبيا ومنها مبدأ الفصل بين السلطات ـ رغم ضبابيته منذ صدور الإعلان الدستوري سنة 2011 ـ ومبدأ كفالة الحق في التقاضي ومبدأ المشروعية.

ولعل ما يؤكد ذلك ما قررته المحكمة العليا نفسها: “هذا وليس مشروعا، إذن، أن تصدر السلطة التشريعية قانونا أو أن تصدر السلطة التنفيذية مرسوما بقانون تهدر استقلال وحصانات رجال القضاء فيه أو تنقص منها (..)” (طعن دستوري رقم 1-14ق).

وفي مناسبة أخرى أكدت المحكمة العليا بوصفها محكمة دستورية: “(..) أن تجريد الحقوق الدستورية المختلفة من الوسيلة الفعالة لحمايتها وهي الإلتجاء إلى القضاء طلبا للانتصاف من شأنه أن يجعل النص الدستوري المتعلق بهذه الحريات عبئا لا طائل تحته.

ما دام في وسع المشرّع أن يجرد تلك الحقوق من عنصر الحماية القضائية استنادا لما له من حق في تنظيم التعليم أن تنظيم التقاضي، ذلك أن الحقوق الدستورية المنصوص عليها بالذات في الدستور لا يجوز أن تتجاوز سلطة المشرّع فيها بتنظيمها إلى إهدارها ومصادرتها (..): (طعن دستوري 19-1).

وإذا كان ذلك هو حال المشرّع، فإن الجمعية العمومية للمحكمة لا تملك، في جميع الأحوال، أي صلاحية في تجريد الحقوق الدستورية – بما في ذلك حق التقاضي – من الوسيلة المنظمة لحمايتها، سواء تعلق الأمر بالطعن بعدم الدستورية أو بالدفع به من باب أولى.

ولا يكفي القول هنا أن الجمعية العمومية المذكورة لم تجرد الحقوق الدستورية من أداة حمايتها، لأنها جمدت استعماله في هذه الظروف الانتقالية التي تشهدها ليبيا بعد الانقسام الذي نتج بعد انتخاب مجلس النواب.

فمن جهة، إن الجمعية ليست هي السلطة التشريعية حتى تقيد حقا أصيلا مقررا، فاختصاصاتها تنظيمية ومحددة حصرا. ومن ناحية ثانية، إن المشكلة ليست، بالضرورة، في ممارسة الرقابة، بل بقدرة قضاة الدائرة الدستورية على التعامل مع الطعون واختيار الحلول التي تخدم مبدأ الشرعية وعلو الدستور وسيادة القانون وتحافظ على تماسك المجتمع وتصون وحدة الوطن.

وأخيرا، إن الجمعية، بموقفها هذا، تخالف المادة 31 من قانون المحكمة العليا التي تنص على إلزامية مبادئ المحكمة العليا للمحاكم وللجهات كافة، وليس من المنطقي أن تعطي الجمعية القدوة غير الحسنة في مجال التعامل مع تلك المبادئ والجهة التي تنضوي تحتها هي حارس الشرعية وسيادة القانون.

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ (فقرة ثالثة: التجميد وحقوق المتقاضين)

***

أ. د. الكوني علي اعبودة ـ كلية القانون طرابلس 

______________

مجلة الميزانـ عدد تمهيدي رقم (0) ـ عدد متخصص حول الحق في الوصول إلى العدالة في ليبيا ـ مايو 2022.

مواد ذات علاقة