بقلم المهدي ثابت

تمر ليبيا بفترة فاصلة في تاريخها .. فصراع المدنية والعسكرة يشارف على النهاية .. بما يبشر بزوال حالة الاقتتال والخلاف السياسي.

مما يعني الانتقال إلى مرحلة إثبات قوة الدولة ومن ثمة العمل على تركيز المؤسسات عبر الاستحقاق الدستوري والانتخابي .. وهذا يأخذ حيزا من الزمن ويتطلب جملة من الشروط الواجب على النخبة السياسية والثقافية في ليبيا توفيرها.

لما قامت الثورة في ليبيا سنة 2011 كان الهدف الرئيسي للثوار هو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تضمن التداول السلمي على السلطة والتوزيع العادل للثروة والقطع النهائي مع منظومة الاستبداد والفساد .

ولكن بين الحلم والواقع تمتد المسافة شاسعة . فالرومانسية الثورية الحالمة لم تضع في اعتبارها حقائق التاريخ والجغرافيا ولم تتسلح بالوعي السياسي المستوعب لمتطلبات الواقع الداخلي ولمتغيرات المحيط الإقليمي والتوازنات الدولية وموقفها من زلزال الربيع العربي.

هذا الواقع لا ينطبق فقط على ليبيا فاليمن وسوريا وضعهما أسوء من ليبيا والحلم في مصر تم وأده . ولم ينج من السرب إلا تونس الذي تمكّن فيها تيار الثورة من ترويض الثورة المضادة وفرض عليها التأقلم مع الخيارات التاريخية الكبرى لتونس ما بعد 14 يناير 2011.

إن ليبيا ليس بلدا عاديا لا من حيث الموقع ولا من حيث حجم الثروات . ولذلك هي محل أطماع قوى دولية وإقليمية اشتغلت وتشتغل ليكون لها حضور وتأثير في مستقبل هذا البلد .

تميزت الثورة الليبية بكونها ثورة مسلحة ولذلك جوبهت من الداخل بالسلاح نفسه . وكان تنظيم الكرامة هو رأس الحربة في قيادة القوى المعادية للثورة .

فكيف نشأ التنظيم الكرامة وتمدد؟

ولماذا أخذ يضعف وينحسر؟

وإلى ما ستؤول الأوضاع في هذا البلد الجريح؟

أسئلة تضعنا الإجابة عليها في حقيقة ما يجري على الأرض وتحيلنا على الدور الذي تلعبه القوى الإقليمية والدولية في تأجيج الصراع.

1 / ظروف نشأة تنظيم الكرامة

نشأ تنظيم الكرامة بداية سنة 2014 في ذروة اشتغال القوى المعادية للربيع العربي .

ففي مصر تمكن نظام الانقلاب من تثبيت وجوده وسيطرته على الأوضاع.

وفي السعودية والإمارات تبلورت إستراتيجية التعاطي مع الثورات.

وعلى المستوى الدولي تخلصت القوى الدولية من البهتة والارتباك بفعل عامل المفاجأة وحددت طبيعة تعاملها المستقبلي مع المستجدات في دول الربيع العربي.

فقد وجد تنظيم الكرامة كل الدعم من مصر والسعودية والإمارات وتحول هذا الثالوث إلى محور إقليمي غايته وأد الثورات في المنطقة بكل السبل الممكنة .

تم دعم الكرامة في مرحلة أولى إستخباريا وماليا بما هيأ له المشروعية والمقبولية الشعبية ثم تم دعمه بالسلاح للقضاء على أي نفس ثوري في المنطقة الشرقية المحاذية لمصر.

وبسيطرة الكرامة على الشرق الليبي بدأ حفتر يتمدد جنوبا وغربا تحت شعار مكافحة الإرهاب وسط مباركة ودعم من المحور الإقليمي ومن بعض القوى الدولية على غرار فرنسا .

وفي الداخل الليبي كان هناك غض نظر مفضوح من المجلس الرئاسي ومن بعض القوى المحسوبة على الثورة على تمدد حفتر بل كان يلقى الدعم في بعض الأحيان بتعلة الشراكة في محاربة الإرهاب .

وكل ذلك تحت ضغط المحور الإقليمي والقوى الدولية الداعمة له على حكومة الوفاق التي كانت تطرح نفسها كحكومة توافقية تعمل على لم الشمل وعلى الحل السياسي الذي يشترك الجميع في صياغته بما في ذلك تنظيم الكرامة.

في حين كانت القوى المحسوبة على الثورة والرافضة للكرامة تنهشها الخلافات الداخلية بفعل غياب المشروع السياسي والحقوقي لثوار فبراير.

تمدد تيار الكرامة في الفراغات التي تركها الثوار إلى أن أصبح رقما فاعلا ومحددا في الواقع السياسي والعسكري في البلاد. لم يكن مشروع الكرامة هو محاربة الإرهاب كما سوق لذلك طيلة سنوات وإنما كانت الغاية السيطرة على البلاد ووأد مشروع الثورة وإرساء نظام عسكري على غرار ما هو موجود في مصر.

كانت هناك قناعة لدى تيار الثورة أن هذا المشروع هو مشروع معاد لمبادئ فبراير وأنه صنيعة محور إقليمي يشتغل على الأرض لإنهاء أي وجود لدولة مدنية ديمقراطية على الأرض الليبية وأصبح يستشعر خطر هذا المشروع الذي تهادنه حكومة الوفاق المعترف بها دوليا.

ولذلك تداعى في ديسمبر 2018 إلى تأسيس التجمع الوطني الليبي الذي جمع شتات فبراير ضمن مكون وطني يحمل مشروعا سياسيا وحقوقيا لثوار ليبيا. وتعتبر هذه المحطة مهمة جدا في تاريخ ليبيا إذ أنها كانت عاملا مهما في التصدي لقوات حفتر في هجمته على طرابلس.

بدأ حفتر في الإعداد لغزو طرابلس وسط تكتم شديد وبالتنسيق المباشر مع السعودية والإمارات ومصر منذ سنة 2016 وكانت فرنسا تسوق له سياسيا وتمنحه غطاء دوليا باعتبارها عضوا في مجلس الأمن .

دعم فرنسا كان مقترنا بالوعود التي منحها لها حفتر بأن تتمتع بالنصيب الأوفر من الاستثمارات في الجنوب الليبي الغني بالثروات وهو ما سيمهد لها أيضا طريقا نحو العمق الإفريقي محل التنازع الدولي.

هذا الدعم الإقليمي والدولي مكنه من السيطرة على الجنوب الليبي إلى جانب المنطقة الشرقية . وعمليا أصبح يسيطر على الرقعة الأكبر من تراب البلاد وأصبح يمثل خطرا حقيقيا على المنطقة الغربية حيث الثقل الديمغرافي والسياسي وحيث عاصمة البلاد مقر حكومة السراج المعترف بها دوليا.

وكان المعرقل الأكبر لأي تقدم لثوار ليبيا لإيقاف زحف الجنرال حفتر هي حكومة الوفاق التي كانت تتلقى وعودا دولية بأن حفتر لن يهاجم المنطقة الغربية ولن يهاجم العاصمة وأنه سيقبل بالحل السياسي في النهاية .

في هذه الأثناء كانت الأمم المتحدة تشتغل من خلال بعثتها للدعم في ليبيا على اجتراح حل سياسي لا يقصي أي من الفرقاء في البلاد وكان جل شغلها مرتكزا على التفاوض مع طرفي الصراع الرئيسيين أي حكومة الوفاق في طرابلس وتنظيم الكرامة في الشرق.

وكان لقاء أبو ظبي بين حفتر والسراج في 3 مارس 2019 اللقاء الأخير قبل المرور إلى المؤتمر الوطني الجامع الذي كان سيعقد يوم 14 أبريل 2019 والذي كان سيفرض فيه حل سياسي يمكّن حفتر بأن يكون وزيرا للدفاع إلى جانب جملة من الامتيازات الأخرى كانت ستمكنه في النهاية من السيطرة على البلاد.

عاد السراج من أبو ظبي وطرح مشروع الحل على الفاعلين السياسيين والعسكريين في طرابلس ومصراته والمنطقة الغربية ولاقى هذا المشروع صدا كاملا ورفضا مطلقا من القوى المحسوبة على فبراير.

وهو ما جعل حفتر يحزم أمره بالهجوم على العاصمة والسيطرة على البلاد بقوة السلاح بدعم المحور الإقليمي وفرنسا التي انخرطت معه بالكامل في هذا المشروع .

وكان هجوم يوم 4 أبريل 2019 بداية النهاية لحلم الجنرال بحكم ليبيا.

2 / الكرامة وبداية الضعف والانحسار

لا يختلف أي من المتابعين للشأن الليبي أن مغامرة حفتر بغزو طرابلس كانت غير محسوبة وأنها عادت عليه بالوبال العسكري والسياسي.

فمن جنرال كان يملك جيشا مجهزا تجهيزا عصريا ليسيطر به على البلاد إلى رجل فقد أكثر من 60 بالمائة من عتاده وآلياته وفقد ثقة داعميه وألب عليه جمهورا كبيرا في ليبيا كان يؤمن بمشروعه في إعادة الاستقرار للبلاد.

فبالمنظور الإستراتيجي لم يعد يملك حفتر قوة عسكرية حقيقية ومنظمة على الأرض تمكنه من أن يكون رقما صعبا في المعادلة السياسية.

كما سقطت تلك الهالة التي صنعها لنفسه وأوهم بها العالم أنه يملك جيشا يصنف ضمن أقوى تسعة جيوش في إفريقيا وخسر قيمته كعسكري محترف بعد عملية تحرير غريان التي نالت من شرفه العسكري.

فقد تم في هذه العملية السيطرة على غرفة عمليات جيشه والتي كان على رأسها الرجل الثاني في الجيش بعده. واليوم تمت محاصرة مدينة ترهونة وقوات حكومة الوفاق تحيط بها من أغلب الجهات وداخل حدودها الإدارية وتنتظر الإذن من غرفة عمليات بركان الغضب لاقتحامها.

وبمجرد تحرير مدينة ترهونة يكون وجود قواته في المنطقة الغربية في حكم العدم لتتحول بعدها العمليات إلى الجنوب والشرق . والسيناريوهات المعدة له قد تنهي وجوده في ليبيا.

وحتى قصفه لمطار معيتيقة ولبعض المنشات المدنية هو دليل ضعف وتخبط ورسالة لأنصاره انه مازال موجودا. وهذه العمليات الجوية هي في الحقيقة وفق تصور كل الخبراء تضره أكثر مما تنفعه.

إن جملة هذه المعطيات وإن لم تستثمرها حكومة الوفاق الاستثمار الأمثل سياسيا إلا أنها جعلت حلفاءه يتأكدون من استحالة دخوله لطرابلس بل هم يشتغلون اليوم على الحد الأدنى من شروط البقاء والتأثير.

وكان تقرير الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرا حول ليبيا بمثابة الاتهام المباشر لحفتر سواء فيما يخص تعطيل العملية السياسية واندلاع الحرب أو في حجم الجرائم والتجاوزات المرتكبة في الشرق الليبي .

3 / السيناريو الأقرب في قادم الأيام

إن الواقع على الأرض هو ما سيحدد مستقبل الصراع. فالحرب الآن دخلت شهرها السادس وقوات الجنرال حفتر ضعفت كثيرا وتقهقرت من أغلب المناطق التي سيطرت عليها في بداية العملية.

بعكس قوات حكومة الوفاق التي لم تنخرط بكامل قوتها في المعركة . فهذه القوات تزداد كل يوم قوة وتنظما وأغلب السلاح النوعي الذي تحصلت عليه من تركيا وإيطاليا لم يدخل الميدان بعد وهو مُعد لحسم المعركة في مناطق نفوذ حفتر.

وغرفة عمليات بركان الغضب قد أعدت كامل الخطط للعملية العسكرية الكبرى التي تنوي تنفيذها في الأيام القريبة القادمة وهو ما سيحدث تغييرا جوهريا في موازين القوى على الأرض وسيكون له تأثير سياسي كبير في الداخل والخارج .

إن القوى الكبرى المعنية بالصراع في ليبيا على غرار روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا قد قررت من اليوم الأول أن لا تكون مع طرف ضد الآخر ولكنها ستتعامل مع من سيحسم المعركة على الأرض وستعترف به كأمر واقع .

وحتى فرنسا التي دعمت الجنرال بالسلاح وبالاستخبارات قد أدركت فشل حليفها وبدأت تنأى عنه تحت الضغوط التي سلطها البرلمان الفرنسي على رئاسة الجمهورية وعلى وزارة الخارجية بعد فضيحة السلاح في مدينة غريان الذي أثبت التورط الفرنسي في الحرب.

وبالنسبة لمصر المنخرطة أكثر من أي طرف آخر في الصراع الليبي فإنه لم يبق أمامها إلا سيناريو تقسيم البلاد عبر الاشتغال على فصل إقليم برقة المتاخم لها. وهو إقليم غني بالنفط.

وإذا مكنت حفتر من حكمه فإنها ستكون المستفيد الأكبر من ثرواته إلى جانب نظام الحكم المتماهي مع ما هو موجود في مصر. وتبقى هذه الفرضية محدودة الإمكان لأن أهل برقة هم من سيفشلون هذا المخطط بالنظر للتنسيق القائم الآن بين قوى حقيقية موجودة في الشرق الليبي وبين حكومة الوفاق وغرفة بركان الغضب .

فوفق الخطة المعدة فإن أهل برقة هم من سينهون عملية الكرامة وهم من سيفشلون خطة التقسيم إن تم الاشتغال عليها حيث يعرف المحور المعادي للربيع العربي في المنطقة حالة من التقهقر والتخبط والتراجع في الأداء .

فالخلاف بين السعودية والإمارات قد استفحل في اليمن ومشروع هذا المحور تلقى ضربات قاصمة في ليبيا. وتونس تشق طريقها بثبات في مسار الانتقال الديمقراطي والجزائر تعرف حراكا سلميا أبهر العالم في سبيل الحرية والديمقراطية.

كل هذا الواقع لن يمكّن حفتر من استرداد أنفاسه ولن يجد نفس الدعم الذي كان يتلقاه سابقا وهو ما ينذر بسقوط مشروعه في ليبيا.

4 / ليبيا وحلم الدولة المدنية

صحيح أن الصراع القائم الآن في ليبيا هو صراع بين القوى المؤمنة بالدولة المدنية الديمقراطية وبين القوى المؤمنة بعسكرة الدولة. وصحيح أيضا أن مشروع العسكرة يتأخر ويتقهقر .

لكن ليس معنى ذلك أن الطريق مفروش بالورود أمام التيار المدني الديمقراطي نحو الهدف المنشود. فحكومة الوفاق ليست متجانسة في عملها وتشقها عديد الخلافات.

وكذلك العلاقة بين السراج القائد الأعلى للجيش ورئيس المجلس الرئاسي وبين مختلف مكونات الثورة لا تسودها الثقة الكاملة . وقد يكون هذا العامل سببا في تأخير حسم المعركة.

فالسراج لا يريد أن يكون الهدف الثاني لتيار الثورة بعد حفتر. ولذلك تكثفت الاجتماعات في هذه الفترة بين مختلف المكونات المساندة لعملية بركان الغضب لوضع تصور لمرحلة ما بعد حفتر يكون هدفها بناء جسور الثقة ورسم ملامح المرحلة المقبلة.

وهذا ليس مطلبا ليبيا فقط بل هو مطلب عديد القوى الكبرى المعنية بما يحدث في ليبيا.وعلى السيد محمد الضراط المكلف من المجلس الرئاسي بالتخطيط الإستراتيجي والفريق العامل معه أن يجتهدوا في رسم تصور لليبيا في السنتين القادمتين للتنمية السياسية والاقتصادية بما يهيئ لدولة مدنية ديمقراطية تضمن الحريات العامة والرفاه الاقتصادي.

الخاتمة

إن الأشهر القادمة ستكون أشهرا حاسمة في تاريخ ليبيا. وهذا يستوجب من دول الجوار الغربي أن تنخرط بقوة في الملف الليبي بما يساعد على إخراج البلاد من محنتها وهو ما سينعكس مباشرة على الأمن في منطقة المغرب العربي وسيبشر بمستقبل حر وآمن لشعوبه التي تطمح لإحياء مشروع المغرب العربي الكبير بما يمثله من ثقل ديمغرافي واقتصادي يجعله قطبا دوليا فاعلا .

***

المهدي ثابت ـ باحث في الشأن الليبي

____________

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

 

مواد ذات علاقة