بقلم بحري العرفاوي

فوز حركة النهضة التونسية في انتخابات 2019 البرلمانية وفوز رئيسها برئاسة البرلمان.

.

الجزء الأول

تم تكليف حركة النهضة رسميا من قِبَل السيد قيس سعيّد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس للحكومة باعتبارها الحزب الأول انتخابيا، ما جعل منافسيها وخصومها الإيديولوجيين يعودون إلى مربعهمالأول ويصطفون في خندقالمعارضة فهل تستطيع حركة النهضة في بيئة شرسةتثبيت الإسلام الديمقراطي؟

مقدمة

بعد حادثة الانقلاب العسكري على الرئيس المصري المنتخب سارع بعضٌ من النخبة السياسية إلى رفع شعار نهاية الإسلام السياسيولكنهم لم يرفعوا عقيرتهم للتنبيه إلى نهاية الديمقراطيةبعد تدخل العسكر في الشأن السياسي وفي السطو على إرادة الأغلبية .. النخبة تلك قرأت الحادثة وِفق أمانيها وليس وفق مآلات الأحداث.

هل يمكن جمع تجارب الإسلام السياسي في تجربة واحدة معرفة بالألف واللام فنقول الإسلام السياسي؟ ألسنا نقول دائما بأن النصوص التأسيسية في الإسلام إنما هي حقل دلالي حمّال أوجه تتعدد قراءاته بحسب الظروف والأمكنة والأزمنة بل وبحسب العقول والطبائع المختلفة؟.

الذين يبشرون بنهاية الإسلام السياسي يعرفون جيدا أن الإسلام ليس بضاعة استهلاكية يمكن أن تنتهي صلاحيتها في مدة معينة ويعرفون أنه ليس ماكينة يمكن أن تتفكك وتتعطب لفرط أو لسوء الاستعمال

الإسلام ليس ملك فئة أو حزب أو جيل ولكنه خطاب الله المُشاع بين الناس جميعا لا يدعي أحد احتكاره ولا يقدر أحد على شطبه.

الإسلام هو السؤال المُخبّأُ في الفطرة الإنسانية وهو القبسُ الذي لا ينطفئ بمجرد خيبة سياسية أو تفكك حزبي.

تلك النخبة تدرك هذه الحقيقة ولكنها تقول ما تتمنى وكثيرا ما تمنع الغرائزُ السياسيةُ العقل من أن يشتغل اشتغالا سليما.

مجزرة الديمقراطية وزيف الحداثيين

وفي الحالة المصرية كان يُنتظر من أنصار الديمقراطية ومن الحقوقيين ومن النخب الفكرية والسياسية أن تُدين حادثة الانقلاب وأن تُدافع عن مدنية الدولة وأن تُنبّه إلى خطورة ما سينجر عن تدخل العسكر في التنافس السياسي من تهديد للديمقراطية كمبدإ وكمسار وكملاذٍ للجماهير من الاستبداد وقد عانت منه طويلا.

القول بأن الإخوان لم يحققوا انتظارات الثورةوبأنهم لم يكونوا فعالين بالقدر الكافي سياسيا واجتماعيا وثقافيا لا يُبرّر إسقاط الشرعية وإجهاض التجربة الديمقراطية.

نعم الإخوان لم تكن لهم دُربةٌ على الحكم ولا دُربة على المكر السياسي ولم يكن منسوب الثورةيسمح لهم بممارسة الحسم الثوريـ وهذا ينطبق أيضا على الحالة التونسية ـ ولكن لا يمكن تفسير مظاهر الفشل تلك فقط بقصورهم هم وإنما يجب الانتباه إلى ما تعرضت لها التجربة الديمقراطية تلك من هجمات فكرية وإعلامية وسياسية بهدف إرباكها وإفشالها ثم إسقاطها.

لقد تعرض الفعل السياسي إلى كل أشكال الإهانة والسخرية والتتفيه والتسخيف إلى الحد الذي جعل العامة تعاف السياسة والسياسيين وتكره الحريةالتي أنتجت الفوضى ولم تنتج التحابب والتضامن والتناصح.

وهكذا أصبحت الظروف مهيأة لتدخل العسكر بعد تعبئة الجماهيرفي مشهدية استعراضية لا يمكن أن تتكرر لأنها ليست نضالية مبدئية… كانت تعبئة بتمويل خارجي وداخلي.

الانقلاب على رئيس منتخب والقبول بذاك الانقلاب والدفاع عنه إنما هو سقوط أخلاقي لا مثيل له ولن يكون مدخلا للديمقراطية ولا للإصلاح وإنما سيفتح الباب للفوضى وللفساد والجريمة.

انقلاب العسكر على تجربة الإسلاميين السياسية ليس دليلا على نهاية تجربتهم إنما هو دليل على ضيق صدور العلمانيين وأدعياء الديمقراطية بنتائج الصناديق حين تفرز غيرهم بل وحين تفرز الإسلاميين تحديدا.

الانقلابات تلك ستؤكد مظلومية الإسلام الذي يريد أن يكون ديمقراطيا كما هو الحال دائما وستدّخر له حقوقا وشرعيات مغتصبة لن تسقط بالتقادم وستثبت أن شرف الإسلام الديمقراطي أنه لم يُهزم في معارك الأفكار والقيم وإنما وقع ضحية مؤامرات داخلية وخارجية له أن يثأرلنفسه ديمقراطيا ومعرفيا.

 ليس للظلم من مستقبل غير المحاسبة والندامة وأما المظلومون فمستقبلهم دائما أمامهم حين يعرفون مسالك الحق فلا يغتالونه.

حين تنقلب الحقائق ويصبح الانقلابيون ثوريين ويُصبح المرتزقة جمهورا ويُصبح ضحايا الاستبداد لعقود يُنعتون بكونهم فاسدين ومخلوعينفتلك مقدمات خراب العمران.

ولعل ذاك هو عينه ما تهدف إليه القوى المتآمرة على الأمة: الإلقاء بالجميع في مواقد الفوضى انتقاما للشرق الأوسط الجديد الذي أجهضته المقاومة وقوى التحرر في الأمة منذ نشأة المعارضات الوطنية والمنظمات الحقوقية .

حركة النهضة: نموذج الإسلام الديمقراطي

الذين سارعوا في تونس إلى تصريف ما حدث في مصر تصريفا إيديولوجيا وبشروا بنهاية تيار الإسلام الديمقراطيإنما كانوا يُمهدون الطريق ويهيئون الناس لمحاولة نقل المشهد إلى هنا.

وهنا لا يدعي أحد بأن الحكومات المتعاقبة منذ 2011 وبمشاركة حركة النهضة، قد نجحت في تحقيق انتظارات الناس ولا أحد أيضا يقدر على طمس الإخلالات والعثرات ـ سواء لأسباب ذاتية أو لأسباب موضوعية وعراقيل خارجية.

ولكن أيضا لا أحد يُنكر حجم التركة التي أسست عليها تلك الحكومات تجربتها وأيضا حجم الضربات التي تلقتها في أكثر من موضع وفي أكثر من مناسبة.

والسؤال هنا قد لا يكون عن حجم فشلها بل عن مستوى صمودها وربما أيضا عن رحابة صدرها ـ حَدّ التميع ـ بحيث تجاوزت حرية التعبير مستوى الفكرة والرأي والمشاعر والذائقة لتصبح سبابا وقذفا واستهزاء حتى تطاول المخنثون والمعطوبون والحمقى على رموز وطنية وقامات حقوقية وسياسية.

ليس من باب الوهم قولنا بأن تجربة تيار الإسلام الديمقراطيفي تونس موعودة بالنجاح لأسباب عديدة أهمها:

ـ في تونس هناك برلمان تعددي أفرزته انتخابات مشهود لها بالشفافية وكل خروج عن المسار الديمقراطي والسياق الانتخابي لن يفهمه المواطنون إلا على أنه عمليةٌ ماكرة بل وغدر برفاق صندوق الاقتراع ـ رغم صَدقاتِ أكبر البواقي ـ

ـ الحكومة ليست حكومة النهضة ولكنها متعددة التكوين رغم تفاوت المقادير وهذا ما يجعلها ذات امتداد خارجي يخفف عنها الضغط الإيديولوجي وهو ما يريده الأستاذ راشد ولوجا بالتجربة التونسية في معنى الدولة المدنية وفي تطبيقات الإسلام الديمقراطي“.

ـ حركة النهضة التونسية ليست حركة إخوانية على مستوى خطابها وقراءاتها ومشروعها ومنهجها وانفتاحها فهي حركة حداثية رغم تفاوت درجات الخطاب داخلها لتفاوت درجات التكوين والتجربة.

كما أنها تعتمد سياسة مرنة في التعامل والتواصل وكسر ما يضرب عليها من حين لآخر من طوق وحصار.

ـ أن العسكر في تونس ليست له تقاليد انقلابية كما هو الحال في بلدان أخرى شقيقة ومجاورة بل كان له دور مشهود في مرافقة الحراك الشعبي وحماية المؤسسات وحتى حماية صناديق الاقتراع وامتحانات التلاميذ.

ـ الأحزاب المتبنية لمخطط إسقاط المسار الديمقراطي انتهت إلى الفشل والخروج من المشهد عبر صناديق الاقتراع في انتخابات 2019 وتلك الأحزاب والجماعات ليست ذات امتداد شعبي وقد استهلكت لعبتهايوم 6 فبراير 2013 وتكشّف أمرها والجماهير لا تُخدع دائما.

***

بحري العرفاوي ـ كاتب وشاعر من تونس

_______________

مواد ذات علاقة