بقلم د. طارق محمد الجملي

الصراعات الداخلية تعد أحد العوامل المهددة لاستقرار الدولة. فهذه الصراعات تؤدي في أغلب الأحوال إلى تكفيك الروابط الاجتماعية.

وهذه المشكلة تبدو أكثر تعقيدا في المجتمعات ذات التكوين القبلي، حيث المشكلة لا ترتبط فقط بحالة النزاع القائم، ولكنها تمتد إلى ما بعد هذا النزاع، حيث العلاقات الاجتماعية التي تصدعت تحتاج إلى وقت طويل لإعادتها إلى ما كنت عليه.

الجزء الثاني

نظام العدالة التصالحية إطار قانوني فعّال لتحقيق أهداف العدالة التوافقية

إن إيجاد إطار قانوني جديد للعدالة في مرحلة الانتقال في ليبيا، يقتضي في البداية البحث عن تحديد مفهوم العدالة الانتقالية يوافق الأهداف التي نتطلع إلى تحقيقها في ظل معالجة مشكلة الحالة الليبية.

في هذا الخصوص، حدّد قانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013 أهم ركائز العدالة الانتقالية التي يهدف الليبيون إلى تحقيقها، حيث نص في مادته 5 على مجموعة من المبادئ أهمها، في هذا المقام: المحاسبة الجنائية، المصالحة الاتفاقية، العفو التشريعي، وجبر الضرر.

في الواقع هذه المبادئ الأربعة لا يمكن تحقيقها في ظل نظام عقابي تقليدي يقوم على فكرة وجوبية الدعوى الجنائية.

فالمحاسبة الجنائية لا يمكن أن تتحقق في ظل تبنى نظام العفو مثلا. كما أن هذه المحاسبة من الممكن أن تتعارض مع فكرة المصالحة الاتفاقية.

لذلك يمكن القول أن تحقيق أهداف العدالة الانتقالية لا يمكن أن يتسنى في ظل نظام جنائي تقليدي. فتحقيق هذه الأهداف في مثل هذا النظام يتم إما بتجاوز النظام القانوني الجنائي القائم من خلال تبني حلول عرفية تلبي مقتضيات العدالة الانتقالية وفقا لما تقدم، وهذا بطبيعة الحال سيجعل تلك الحلول حلولا غير قانونية وغير مقبولة، وإما أن يعاد النظر في النظام الإجرائي الحالي من خلال إيجاد بدائل تمثل إطارا قانونيا لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية وفقا لما نص عليه القانون رقم 29 سالف الذكر.

تمثل العدالة التصالحية إحدى ركائز النظام الإجرائي الجنائي الجديد في كثير من الدول كفرنسا مثلا والمغرب كإحدى الدول العربية التي تبنت مثل هذا النظام.

فهذا النظام يعد أقرب النظم الإجرائية لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية في المجتمع الليبي نظرا لطبيعة التركيبة الاجتماعية الليبية التي تقوم في أغلبهاعلى فكرة الانتماء القبلي، حيث ينظر إلى الجريمة – في أغلب صورها – لا على أنها اعتداء على نظام الدولة فحسب ليجزي بشأنها العقاب التقليدي، ولكن هذه الجريمة تمثل في نظر المجتمع القبلي اعتداء على أحد أفراد التركيبة الاجتماعية للقبيلة.

فلا حل يمكن قبوله – عادة – إلا إذا كان يستجيب لفكرة تسكين مشاعر المجني عليه وأسرته.

إن هذه الطبيعة الخاصة تجعل الكثير من أحكام القضاء غير كافية لإزالة آثار الجريمة وإرضاء الشعور بالعدالة لمجرد أن أيا من المجني عليه أو أسرته لا يرى أن حكم القضاء كان منصفا.

فهذه الخصوصية للمجتمع الليبي تزداد إلحاحا بشأن إيجاد حل لمشكلة العدالة الانتقالية لسببين:

ـ الأول، وهو أن العدالة التي تمارس من أحد أطراف النزاع – في ظل الظرف الراهن سينظر إليها من الطرف الثاني على أنها ظلم وتشفّ،

ـ الثاني أن هذه العدالة يبدو من الصعب تطبيقها في ظل غياب سلطة قوية.

ولهذا فإن نظام العدالة التصالحية سيمثل أحد الحلول لمشكلة العدالة الانتقالية في ليبيا، وذلك من خلال إدخال الضحية طرفا في النزاع الجنائي يفاوض الجاني على حل يرضيه ويجبر الضرر الذي ألم به.

وهذا النوع من العدالة يتخذ صورا متعددة لا يتسع المقام لسردها وتفصيلها. ولكن أهم هذه الصور هي الوساطة الجنائية، حيث يُسند للنيابة العامة دور جديد قوامه التوفيق بين الضحية والجاني في شكل مفاوضات تنتهي إما بالتصالح وإما بإحالة الموضوع للقضاء.

فنظام الوساطة الجنائية سيمثل مرحلة لحل النزاع صلحا. وعلى الرغم من أن هذا النظام يقتصر تطبيقه في الدول التي تأخذ بهعلى طائفة من الجرائم البسيطة، إلا أنه لا ضير من توسيع نطاق تطبيقه في ليبيا ليشمل جرائم على درجة من الخطورة، على اعتبار المرحلة الانتقالية هي مرحلة استثنائية تستهدف تحقيق السلم والأمن الاجتماعي وهو ما يجيز تبني حلول استثنائية تكفل تحقيق هذا الهدف السامي والملح.

مبررات المطالبة بتطبيق نظام العدالة التصالحية

المطالبة بتطبيق نظام العدالة التصالحية يمكن أن تستند إلى اعتبارات واقعية وأخرى قانونية:

فمن الناحية الواقعية، يشكل نظام العدالة التصالحية نظاما مقبول ومطبقا في ليبيا في صور مختلفة. وقد ساهم في فض نزاعات اجتماعية ذات طابع جنائي.

فقانون القصاص والدِّية رقم 6 لسنة 1996 يجيز العفو عن القاتل في جريمة القتل العمد. وهو ما يترتب عليه تخفيف العقوبة عن القاتل مقابل دفع قيمة مالية تسمى الدِّية.

وهذا الصلح يؤدي في الغالب الأعم إلى إزالة مشاعر البغض بين أسرة الضحية والجاني، رغم جسامة الجريمة وخطورتها.

ولهذا يمكن القول إن فكرة العدالة التصالحية تجد لها تطبيقات من الناحية الواقعية وهو ما يرشح لفكرة قبولها اجتماعيا كوسيلة لفض النزاعات الجنائية ذات البعد الاجتماعي.

أما الاعتبارات القانونية للمطالبة بنظام العدالة التصالحية، فمن خلالها يمكن القول إن هذا النظام ليس مجرد نظام اختياري يترك تقدير تبنيه للمشرّع، بل نعتقد أن هذا النظام أصبح – على الأقل في مجال العدالة الانتقالية – نظاما وجوبيا.

فما تقرره المادة 5 من القانون رقم 29 سالف الذكر من ضرورة استهداف تحقيق المساءلة الجنائية والعفو والمصالحة الاتفاقية لا يمكن أن يُفهم – بدون تناقض – إلا من خلال تبني هذا القانون لفكرة العدالة التصالحية التي من خلالها يتحقق هدفان رئيسان، هما جبر الضرر من ناحية وتحقيق فكرة المساءلة من ناحية أخرى، على اعتبار أن الوساطة الجنائية بين الخصوم سوف تؤدّي إلى توقيع جزاء يقبله الخصوم بالإضافة إلى التعويض.

وهكذا نكفل بهذا النظام فكرة العدالة التوفيقية التي تقوم على أساس واضح مفاده إرضاء كل أطراف النزاع تجسيدا لفكرة العدالة الرضائية، ليحل مفهوم العدالة التوفيقية محل فكرة العدالة الانتقالية التي ارتبطت عمليا بفكرة الانتقام والإنتقاء والإقصاء.

فالعدالة يجب ألا ترتبط بفكرة الانتقال السياسي بقدر ما إنها تهدف إلى تحقيق الوئام الاجتماعي من خلال التوفيق بين مصالح متعارضة.

وفي إطار الاعتبارات القانونية، يمكن القول أيضا أن ضرورة اللجوء لنظام العدالة التصالحية يجد أساسه في مشروع الدستور الليبي. فوفق المادة 64 من هذا المشروع، لم يعد الجزاء التقليدي المتمثل في سلب الحرية هو الجزاء الأمثل، حيث نصت هذه المادة على أنه لكل إنسان الحق في الحرية الشخصية ولا يُلجأ إلى سلب الحرية إلا في حالة عدم كفاية التدابير والإجراءات أو العقوبات البديلة “.

فالإجراءات البديلة التي أشارت إليها المادة تعني ضرورة تبني نظام العدالة التصالحية التي تستحدث جزاءات جديدة غايتها التوفيق بين أطراف النزاع وهي ليس بالضرورة عقوبات سالبة للحرية .

إن تبني نظام العدالة التصالحية سيمثل أحد الحلول العملية لمشكلة إفلات الجناة من العقاب بسبب ضعف سلطة الدولة وافتقادها لقوة الجبر التي تمكنها من بسط سلطانها جبرا على مرتكبي الجرائم، دون أن يمثل هذا النظام مخالفة لمعايير العدالة الجنائية الدولية التي تؤكد على مبدأ عدم الإفلات من العقاب بالنسبة لطائفة من الجرائم هي محل للمصالحة في ليبيا.

ففكرة العدالة التصالحية لا تقوم على الإعفاء المطلق ولا التبرئة على بياض، فهي ترتكز على فكرة الرضائية في قبول جبر الضرر وفي الخضوع للجزاء.

ربما طبيعة الجزاء الموقع على مرتكب الإثم ليس هو نفسه الجزاء المقرر للجرم في الظروف الطبيعية بحيث يكون الجزاء أخف في حالة العدالة التصالحية. ولكن ذلك يُبرر على أساس تحقيق مصالح أبعد وأعم وهي فكرة المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي.

إن هذا المفهوم لفكرة العدالة التصالحية يستبعد أي احتمال للتعارض مع مبادئ القانون الدولي التي تؤكد على عدم الإفلات من العقاب ، لأن المصالحة لا تعني الإعفاء .

الخلاصة:

إن إعادة النظر في التشريع الإجرائي الجنائي الليبي يبدو أهم الخطوات نحو وضع نظام للمصالحة الوطنية من خلال إقامة فكرة العدالة التوفيقية التي تستهدف مشاركة أطراف النزاع في إيجاد حل للنزاع الجنائي، كتبني نظام الوساطة الجنائية والتصالح.

ويبدو من الضروري عقد لقاءات قانونية للمتخصصين لوضع تصور لتعديل قانون الإجراءات الجنائية الليبي يسمح بإدخال هذه الأحكام للمنظومة القانونية الليبية.

***

د. طارق محمد الجملي ـ عميد كلية القانون جامعة بنغازي، أستاذ القانون الجنائي

____________

نشر هذا المقال في العدد 13 – ديسمبر 2018، من مجلة المفكرة القانونية

مواد ذات علاقة