بقلم عبد الفتاح الشلوي

ازداد ترديد كلمة الثوابت عقب ثورة فبراير 2011م، بشكل ملحوظ، تزامن والحراك السياسي في ليبيا، واتضح تداولها واستهلاكها بين الطيف السياسي الليبي، وما انفكوا يلوكونها بشاشات “التلفزة” التي هي أيضا وقعت بشراك الثابت والمتغير.

رفع كل طرفٍ من أطراف الأزمة الليبية ثوابته، وقولبها حسب رؤيته الخاصة، ومنطلقه “الأيديولجي” والمناطقي، أو القبلي، ومنهم من اتخذها شعارًا له، ومنهم من تحصن بها،وهناك من اتخذها مطيةً، حتي أدرك محطة وصوله، فألق بها، ولم يعز مبرارات دهسها، وثالث سجن نفسه بها، حتى أنه جمع بين قسوة السجان ومعاناة السجين.

وفي عموم الأزمة الليبة تعاملت الأطرف مع الثوابت بمعايير مختلفة، النفعيون خلعوها حال تحقق مرامهم، وأصحاب النفس القصير اتخذوها كبخاخ لترطيب رئتهم المتخشنة، أخرون تمترسوا وتعلقوا بها، لكنهم لم يقدموا، ولم يؤخروا، وانتظروا الحلول الهابطة من السماء، دون تحقيق أي نتائج تذكر.

لم يكن من مشتركٍ بين الليبيين — إن اعتبرناه من الثوابت — سوى الهدف الذي خرجوا لأجله، بثورة فبراير، صحيح أن كل الشعب لم يخرج، لكن الغالبية خرجت، بغض النظر عن دوافعهم، ويبقوا هم المعنيون بالوصف، وهو أن ثابتهم الذي اتفقوا عليه يكمن في اسقاط القذافي، رأس السلطة في ليبيا، وظلوا مصممين عليه، ولم يتنازلوا عنه قيد أنملة، رغم طرح عديد الحلول والمبادرات، من الداخل والخارج، ويعزو البعض ذلك لشراسة الخصم، وعدم الثقة به، وانتهاجهم مبدأ لا رجوع.

ومهما اتفقنا أو اختلفنا حيال ذلك، فإنه يبقى سمة من سمات فبراير، وعلامة من علاماتها، رغم أن الخوف من الإخفاق أو عند الاتفاق قد جسد هذا الهاجس، وكرسه حتى لدى المترددين .

لنتخطى تاريخ الاحتراب والإغماد، ونتحدث عن الثوابت بمرحلة ما بعد أول انتخابات تشريعية — عقب انهيار سلطة سبتمبر — جرت في 7/7/2012م ، فقد جاء المؤتمر الوطني المنتخب من رحم الثوابت في ظاهره، بروح ثورجية عالية، وسقف طموحات أعلى.

نادى بها 200 عضو منتخبين من كافة أرجاء ليبيا، ضمتهم قاعة المؤتمر الوطني، أحزابًا، ومستقلين، جمعتهم بالمقاعد، وموائد الأكل، وعند الاقتحامات، والأسفار، لكن لم تجمعهم رؤى وأهداف موحدة، للنهوض بالبلد المثخن بالجراح، فقد تهلهل الجسم التشريعي بشكل مبكر، أو أنه جاء بشتات سياسي.

المستقلون كانوا يحملون 120 رؤية، متمثلة في عددهم، الأحزاب لم تكن متوافقة فيم بينها، بل في داخلها، ومع هذا كل يرفع ثوابته في ظل الوصف السابق للكلمة، صحيح أن الأحزاب كانت أفضل حالاً من شتات المستقلين، لكن أداءهم كان سيئًا ( الأحزاب المعنية بالحديث هنا، حزب التحالف، والعدالة والبناء، والجبهة الوطنية) وما عداها فكانت مسميات لتكملة المشهد. فهذه الأحزاب لم تقنع الآخر بمشروعها، بل لم تقنع به نفسها، ولعلي اتجاوز فأقول أنه لم يكن لأي منها مشروعه الخاص، ولا خطة تجمعها.

في جلسة الافتتاح بتاريخ 8/8/2012م انفجرت أولى قنابل الخلاف، وهي مشكلة مزدوجي الجنسية ومسألة تولي المناصب السيادية، وبعض اعضاء المؤتمر جنسيتهم مزدوجة، عَلُقَ دخان القنبلة الأولى بالقاعة، الي أن دفع لتورم قنبلة ثانية، كانت أشد فتكًا، وهو قانون العزل السياسي، البوتقة التي انصهر فيها طيف الخصوم، خصوم الثورة، وخصوم المؤتمر، فَجُمِعَ شتاتًا مبعثرًا، وزاد من قوة المتربصين .

لم يصمد ضجيج القنبلة الأولى، وتهاوى أمام رياح المتغيرات، وضراوة الأحداث، فسقط بذلك أحد الثوابت، وهو قانون “هيئة النزاهة” فلم تعد مشكلة ازدواجية الجنسية بذات الحجم الذي كانت عليه، لكن انصار قانون العزل السياسي داخل وخارج قاعة المؤتمر الوطني تمسكوا بثوابتهم، وأصروا عليها، فصدر القانون، رغم جدلية صدوره، والطريقة التي وُلد بها، فجرف أمامه قانون هيئة النزاهة، وحل بديلاً له.

جاء قانون العزل السياسي بوهج صد الأعين حتى عن قراءة بنوده، الأمر الذى جعل الدكتور محمد المقريف يُعجِّلُ بتقديم استقالته من رئاسة المؤتمر الوطني، من باب ( أموت بحربتي لا بسيف عدوي) كونه مشمولاً بأحدى مواده، المحاكة له بدهاليز القاعة، وربما ينطبق القول على نائبه الأول الدكتور جمعة عتيقة، وإن كانت استقالته تحتمل ما تحتمل من التبريرات، كان ذلك أحد الثوابت الذي تحقق للبعض، ولعله كان سجنًا أو أحد السجون.

تعددت سجون الثوابت، فاتخذت الأحزاب قاطعها الجماعي، أما المستقلون فقد بقوا بوضعٍ أسوأ مما كانت عليه الأحزاب، فقبعوا بزنازينهم الانفرادية، يتابعون المشهد من على ضفاف دائرة الحدث، أغلبهم تابعين لطاحونة الأحزاب، ويدورون في فلكها، في وقتٍ كان فيه الحراك السياسى يتقاذف غالبية المستقلين، فتتبدل مواقفهم يومًا بعد أخر، بل ساعة بعد ساعة، وتاهوا بربكة اخفاق الأحزاب في الاتفاق على أي شئ، واختلافهم على كل شئ.

وكان احتدام الخلاف وتبعثر الثوابت عند نزلاء “ريكسوس” كما يروق للبعض أن يطلق عليهم هذه التسمية، نسبة لفندق “ريكسوس” الفخم ، عندما انخرطوا بالحوار السياسي، ففي بداية المشروع، تصلب المؤتمر ورئاسته بثوابت جعلوها بقالب اسمنتي، ونازعوا المبعوث الأممي” ليون” من خلالها، ومع مشروع “ليون” وطول الطريق، فُتِحَت دروب أخرى، وطلت متغيرات علي المشهد، جعلت الثوابت تتغير، والمؤتمر يتشظى، والمشهد يدخل منعطفات أكثر إلتواءً.

ومع مرور الوقت، دخل البعض منهم تحت مظلة أن السياسة لا تعرف الثوابت، وأن من يسجن نفسه بها عليه أن ينتظر قرار الافراج من السجان، إن سار في طريق الثابت بعينين معصوبتين، وأهمل حقيقة المتغير، رغم ذلك مازالت الثوابت تروج بسوق المزايدات، وقد أفلح من أفلح في ارتدائها، مع متغيرات فصول المواقف، واستطاع تمريرها لقيطةً، في حفل زفاف مشهود، كان شهوده لا يخشون السقوط بقول الزور ..

***

عبد الفتاح الشلوي ـ عضو المؤتمر الوطني العام السابق

_____________

مواد ذات علاقة