رشيد خشانة

تستعد فرنسا لإجلاء مئات من جنودها من قواعد عسكرية رئيسية، في منطقة غرب أفريقيا. وتستبقُ أمريكا، هذا التراجع الاستراتيجي، بالسعي للحلول محل الفرنسيين، لأن الفراغ سيستثمره الروس والصينيون، حسب المخططين الأمريكيين. ويشمل الانسحاب الفرنسي، مئات الجنود في ثلاث قواعد بكل من السنيغال والغابون وساحل العاج.

وتُرك مصير تلك القواعد بعد الانسحاب، إلى قرار يتخذه قصر الإيليزيه. وبعد تفكير عميق، حسب الخبيرة الفرنسية إيليز فانسون، اتخذ الرئيس إيمانويل ماكرون قرار الانسحاب الاستراتيجي، في اجتماع لمجلس الدفاع، أواسط كانون الأول/ديسمبر الماضي.

وفيما يسعى الأمريكيون إلى قطع الطريق أمام أطماع روسيا في المنطقة، لم يُعرف، حتى الآن عدد العسكريين الذين تعتزم باريس سحبهم، ولا ميقات السحب.
لكن مصادر فرنسية أكدت أن باريس لا تعتزم الإبقاء على أعداد كبيرة من الجنود في القواعد، وأن الأمر يتعلق بمئة جندي في الحد الأقصى من العاملين في مجال الدعم العسكري.

ولم ينزل عدد القوات الفرنسية في كل من ليبروفيل ودكار عن 350 جنديا في الأشهر الأخيرة. أما قاعدة أبيدجان، وهي العقدة اللوجستية للعمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل والصحراء، فتضم حوالي 950 جنديا.

ونبه المحلل العسكري الفرنسي تانغوي برتماد إلى أن ماكرون لم يُقرر الغلق الكامل للقواعد، مع أن هذا الخيار كان مطروحا على مائدة اجتماع مجلس الدفاع. لا بل حافظ ماكرون على أعداد القوات الفرنسية، المرابطة في كل من جيبوتي وتشاد (1500 جندي).

وتنفي باريس أن محورا أمريكيا فرنسيا، بدأ يتشكل في المنطقة للرد على التمدد الروسي، وتؤكد أن مبدأ الخفض من عدد القوات المنتشرة في القارة الأفريقية، يعود إلى العام 2023 عشية الإعلان عنه، على لسان ماكرون، قبيل انطلاق جولة قام بها في غرب أفريقيا. وبكلام أدق يسعى الفرنسيون إلى التخلص من الصورة السلبية السابقة، المتصلة بالحقبة الاستعمارية، لكن من دون التخلي عن مواقعهم ومصالحهم الاقتصادية في المنطقة.

ولا يُخفي الفرنسيون أنهم يستعجلون الانسحاب، مع استعدادهم لإحلال نمط جديد من العلاقات بين الجانبين يكون للأفارقة كلمتهم فيه. أما الأمريكيون فاستخلصوا العبر من القرار الفرنسي، وسعوا إلى إدخال تعديلات على استراتيجيتهم الأفريقية. ومن أجل ضبط تلك التعديلات، شد وزير الخارجية َالأمريكي أنتوني بلينكن الرحال إلى أربعة بلدان أفريقية مفتاحية، لتعزيز التعاون العسكري والأمني معها.

ويمكن القول إن المعادلة الصعبة، التي كان على بلينكن أن يهتدي إلى حلها، تتلخص في السؤال التالي: كيف نحافظ على نفوذنا في قارة تُنوعُ شركاءها الاقتصاديين والأمنيين، ومن بينهم روسيا والصين، اللتين تبدوان أهم مستفيدتين من تنويع الشركاء؟ واختار بلينكن أن يجول على أربعة بلدان مطلة على الساحل الأطلسي، وهي ساحل العاج ونيجيريا وأنغولا وجزر الرأس الأخضر.

وواضح من خلال تصريحات بلينكن أن واشنطن «ستضع ثقلها في الميدان» وهي العبارات التي رددها الرئيس بايدن العام الماضي في شأن العلاقة بالقارة الأفريقية، واعدا بزيارتها في 2023 لكنه لم يف بوعده. ولعل الهاجس الأكبر للإدارة الأمريكية، من خلال جولة وزير خارجيتها، يتمثل باحتواء التمدد الروسي والنفوذ الصيني، في قارة أبصرت سلسلة من الانقلابات العسكرية منذ العام 2020. ورأى خبراء أن الرسالة التي نقلها الوزير الأمريكي إلى الأفريقيين، هي أن واشنطن لم تنس أفريقيا، ولن تتخلى عن الأفريقيين، بالرغم من انشغالها بالحروب المشتعلة في أوكرانيا وغزة.

ولم يُخف مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مُولي في، في لقاء إعلامي يوم 18 من الشهر الماضي، أن القوة العسكرية التي تملكها واشنطن في القارة الأفريقية أصبحت محدودة منذ الانقلاب الذي جد في النيجر، في يوليو/تموز 2023.

وما زال الأمريكيون يحتفظون بقاعدة في جيبوتي، مُطلة على البحر الأحمر، وعلى مواقع في نيامي وأغاديس، وهي تستخدمهما مهابط لطائراتها المسيرة وقاذفاتها الحربية، على مدى يمتد من جنوب ليبيا إلى منطقة الساحل، مرورا بالسودان. وثمة أصواتٌ في الإدارة الأمريكية تحض على تسريع وتيرة الانسحاب، المُبرمج سلفا للأشهر المقبلة، على أن يشمل القواعد الثلاث في ليبروفيل ودكار وأبيدجان.

من جهة أخرى قرأ مراقبون زيارة بلينكن إلى ساحل العاج، بعد أقل من أسبوعين من زيارة نظيره الصيني إليها، على أنها رسالة موجهة إلى بكين. وقال مولي في إن بلينكن يريد أن يتأكد من أن البلدان التي زارها ما زالت ماضية في الحرب على الجماعات المسلحة، ومكافحة الخطر الإرهابي، «الذي ما زلنا نلحظه في منطقة الساحل، حيث يتنامى النفوذ الصيني باطراد» على ما قال في. وشملت جولة وزير الخارجية الصيني الأفريقية الأخيرة مصر وتونس والتوغو، وختمها في ساحل العاج.

بايدن أخلف وعده

وعلى الرغم من أن بايدن أخلف الوعد الذي قطعه على نفسه، بزيارة أفريقيا في العام الماضي، فإن توالي الزيارات التي أداها مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى إلى بلدان أفريقية مختلفة، دلت على أن واشنطن ما زالت تُعير أهمية كبيرة للمنطقة، واستطرادا هي مقبلة على تعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في القارة.

وليس أدل على ذلك من جولات بلينكن، الذي زار القارة أربع مرات، بالإضافة لجولات مماثلة قام بها مسؤولون كبارٌ، بينهم وزير الدفاع لويد أوستن ونائبة الرئيس كمالا أريس، وهما ينحدران من أصول أفريقية.

ويُعزى هذا الاهتمام الخاص، إلى موقع أفريقيا وثرواتها الكبيرة، التي أُهملت في ظل العولمة الزاحفة، لذلك باتت اليوم حلبة تنافس على الثروات، لا بل ساحة لصراعات مسلحة وحروب محورُها من يمتلك تلك الثروات.

وبمقارنة جولة بلينكن قبل الأخيرة في القارة، في آذار/مارس الماضي، والجولة الأخيرة في كانون الثاني/يناير، تغيرت عناصر كثيرة في المشهد الأفريقي، فعلى سبيل المثال زار الوزير بلينكن، في الجولة السابقة النيجر، ليدعم الرئيس محمد بازوم، باعتباره رئيسا منتخبا في بلد يُرابط فيه أكثر من ألف جندي أمريكي، في قواعد خاصة بالطائرات المُسيرة، التي تستهدف واشنطن بواسطتها عناصر الجماعات المسلحة. لكن بعد أشهر قليلة من الزيارة، أطاح الجيش بالرئيس الشرعي، وأعلن الحكام الجدد أنهم سيُنوعون الشركاء الدوليين، ما اعتُبر دعوة للروس للحلول في محل الفرنسيين.

الوريث الشرعي؟

ووسعت روسيا من مجال نفوذها بين البلدان الفرانكفونية، خلال السنوات الأخيرة، عن طريق مجموعة «فاغنر» مُعتبرة أنها «الوريث الشرعي» للجيش الفرنسي، المُنسحب من قواعده العسكرية في المنطقة. وأتاح الحضور المتنامي لقوات «فاغنر» لروسيا، تعزيز نفوذها في المنطقة، وخاصة في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، بالإضافة لعلاقات خاصة مع العسكر الحاكمين في بوركينا فاسو.

هذا الوضع يُقلق الجزائريين، الحريصين على إخراج جميع القوات الأجنبية من المنطقة ومن القارة، وهي الرسالة التي نقلها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إلى جميع الأطراف المتداخلة في الأزمة الليبية، سواء القيادات الليبية في الداخل، أم الدول العربية والأجنبية الضالعة في الصراع.

وعلى عكس بعض دول الجوار، التي تُهون من خطر التمدد الروسي، يؤكد الجزائريون أن الجماعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» أو بتنظيم «داعش» ما زالت تتحرك وتنفذ عمليات إرهابية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي دول يحكمها عسكريون، وتضم قواعد أمريكية، لكنها تدرس خيارات أخرى، من بينها نقل قواعدها إلى دول أخرى على الساحل الأطلسي، وإنشاء قاعدة للطائرات المُسيرة، حسب تصريحات أدلى بها العام الماضي قائد القوات الجوية الأمريكية لأوروبا وأفريقيا الجنرال جيمس هيكر.
وعدا عن الجزائر، ثمة قوتان إقليميتان ستكون لهما كلمتهما في مآلات الأزمة الليبية، وهما تركيا ومصر. وأظهرت الزيارة التي أداها وزير الخارجية التركي هكان فيدان، إلى ليبيا، في الأيام الأخيرة، ومحادثاته مع القادة الليبيين، أن الأتراك مصرون على حجز مكان لهم، في حملة إعادة إعمار درنة، والمدن الست المتضررة من السيول. وعلى الرغم من أن علاقات تركيا بالقائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر، سيئة نظرا للدور التركي الحاسم في إفشال هجوم حفتر على العاصمة طرابلس العام 2019 فإن الوزير التركي أعلن عن قرب فتح القنصلية التركية في بنغازي.

وأتى فيدان في هذه الزيارة، الأولى إلى ليبيا، منذ تسلُم مهامه، بعبارات جديدة، إذ شدد على أن تركيا «لا ترغب في رؤية اشتباكات بين شرق البلاد وغربها، أو أي اشتباكات في جنوبها» مؤكدا في الوقت نفسه أن أنقرة «لا تريد للانقسام الحالي، بين الشرق والغرب، أن يصبح دائمًا، بل يجب أن يُحل بطريقة سلمية، من خلال الحوار، وبموافقة كافة الأطراف».

إشراف رئيس المخابرات

أما مصر، فهي تسعى إلى احتواء المؤثرين في الجانبين، ولهذه الغاية، نسجت علاقات حوار خفية مع بعض القيادات في طرابلس ومصراتة، كما حرصت على حضور الحوارات التي تمت في القاهرة، والتي جمعت كلا من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وقائد القوات في المنطقة الشرقية خليفة حفتر، وبحضور رئيس المخابرات المصرية اللواء عباس كامل.

وهذا دليلٌ على الحظوة التي يتمتع بها كامل لدى الأطراف الليبية، وإن بدرجات متفاوتة. على أن الاتفاق الذي كان مُتوقعا الوصول إليه في القاهرة لم يُجترح، إذ ما زال الخلاف على حضور رئيس الحكومة الموازية الاجتماعات يُعطل استئناف الحوار.

______________

مواد ذات علاقة