بقلم: عبد الرزاق مختار

ونحن نعيش الذكرى السابعة لثورة فبراير، نستغرب بمرارة تلك الأصوات المتعالية التي تصب جام غضبها على هذه الثورة، ولا يتردد بعضهم في نعتها بالنكبة ليردد كثيرون هذه العبارة، ويجتهد في رصّ أوصاف أخرى شديدة السوء إلى هذه الثورة؛ في سلوك غريب ربما غير مسبوق في الفترات التاريخية المتقاربة ،

أن يتنصل شعب من وجدانه، وأن يقفز شعب على مرحلة فاصلة فارقة في تاريخه أطاحت بنظام دكتاتوري بغيض جثم على صدور الليبيين لعقود، مرسخاً للجهل، وللحقد، وللكراهية، وللتخلف، وللطغيان في أبشع صوره .

 أنا في هذا المقال لا أتحدث عن وقائع سمعت بها، أو حدثني أحد عنها، أو قرأتها في كتاب أوصحيفة قديمة؛ إنما هي أحداث عايشتها وشاهدتها وعايشها معنا العالم عبر وسائل الإعلام.

 لم يكن الليبيون الذين خرجوا للشوارع منذ ليلة 15 فبراير مؤدلجين ولا مبرمجين ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه قام بتنظيمهم وتحريضهم.
إنها انتفاضة عفوية طاهرة، وإن وصفناها بغير ذلك فإننا نتآمر على أنفسنا، ونتنكر لمشاعرنا، ونجحد لحظات تاريخية عشناها بفخر وزهو وعز.

 وإننا بذلك نتنكر للشباب، والكهول، والمسنين، الذين تدافعوا فرادى وجماعات إلى الساحات وإلى الجبهات بسياراتهم الخاصة المتهالكة، وأسلحتهم الخفيفة!
حين أصرّ النظام المتهالك على عسكرة الثورة وشيطنتها وتفجير الجحيم في وجوه المتظاهرين!

المئات منهم قضوا في الجبهات، وقدموا أرواحهم رخيصة؛ فهل كانوا مؤدلجين، ومتآمرين، ومدفوعين، وطامعين؟!
أبدا لم يكونوا كذلك.

وحتى نكون منصفين.. ربما انخرط في هذه الحشود العفوية المتدافعة بعض أصحاب الأجندات الخاصة، والذين كانت لهم ثاراتهم ضد القذافي الذي بطش بهم وبعائلاتهم.

أما الغالبية فكانوا أناساً عاديين لا ينضوون تحت أي تنظيم أو أيديولوجية معينة؛ فقط كان همهم، وهاجسهم، وشعارهم استرداد حريتهم، وكرامتهم من قبضة نظام طاغٍ باغٍ .

إنه لمن المخجل والمعيب والمحزن أنه بعد سبع سنوات يخجل بعض الليبيين من وصف ما حدث في ” 17 فبرايربالثورة ، ومنهم من يعلن ندمه على المشاركة فيها، ملصقاً بها كل المصائب والكوارث التي حدثت خلال السبع سنوات.

متناسين أو ناسين مئات الشهداء الأنقياء الذين قدموا حياتهم، وحملت الجموع صورهم، وخلدت ذكراهم، وزهت بهم، وببطولاتهم، وأقامت لهم نصبا تذكاريا؛ كما حدث في مدينة بنغازي التي أقامت نصباً تذكارياً للطيارين الأبطال الذين استشهدوا خلال ثورة 17 فبراير” .

 هل نتنكر لوجداننا الذي احتفى بهؤلاء الأبطال؟!

وهل نمسح ذكراهم من عقولنا وقلوبنا؟

وهل نذهب ونهدم النصب الذي أقمنا لهم؟

هل كان فخري الصلابي متآمراً ؟!

ألم نفكر في أسرهم وأبنائهم حين نصف الثورة التي استشهد فيها آباؤهم وأبناؤهم بأنها نكبة؟

هل نسينا الإعلامي البطل محمد نبوس؟

الابن الوحيد لأسرته الذي كان يعيش حياة رغيدة في أوربا، وحين انتفض شعبه لم يتردد في شدّ الرحال إلى بنغازي، والقيام بتأسيس مركز إعلامي في مقر المحكمة في الأيام الأولى للثورة، حتى دخل رتل النظام وقتله .

هل نتنكر للشاب الفنان الساخر الشهيد قيسالذي رصع برسوماته الثائرة واجهة المحكمة؟

 هل كان قيس متآمرا ومؤدلجا ؟!

هل كان الآلاف الذين يصلون تحت زخات المطر أمام المحكمة في بنغازي متآمرين ومؤدلجي؟

 هل ينكر و يتنكر هؤلاء الآلاف لتلك الأيام الخالدة ؟

هل نتنكر لآلاف الحرائر اللواتي كن يقمن بطهو آلاف الوجبات للمقاتلين في الجبهات؟ 

هل نتنكر لأكثر من مئة صحيفة صدرت تباعاً في بنغازي من شباب معظمهم غير محترفين؛ فقط تنفسوا نسيم الحرية فحاولوا التعبير عنها سريعا فكان ذلك عبر عشرات الصحف التي صدرت لتكون عنواناً عن حقبة تاريخية انتزعت فيها الحرية انتزاعا.

هل نتنكر ونجحد هؤلاء الشباب، و نشعل النار في ذاكرتنا ونتهم أنفسنا بالخيانة ؟

لم يكن لثورة 17 فبراير قيادة موحدة، ولا متفرقة، ولا رموز ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه قائد أو رمز أو مفجر لثورة 17 فبراير؛ وبالتالي لم يكن لديها في شقها العفوي الطاهر البريء أجندة، ولا مشروع مبرمج، ونخبة موجهة؛ بل على العكس من ذلك.

لقد تجاوز الشارع في المدن الليبية بتجلياته جميع النخب الثقافية، والسياسية، والحقوقية، بمراحل بعيدة وصارت تلك النخب تركض ركضاً حتى تلحق بأحداث الشارع و مخرجاته؛ حتى قيادات المجلس الانتقالي – وكاتب المقال أحدهم تجمعت وتنادت من خارج ليبيا وداخلها بشكل عفوي غير مرتب، وغير مبرمج، وجلهم لا يعرف بعضهم بعضا، وقد حملوا أرواحهم على أكفهم، وتصدروا المشهد بوجوههم، وأسمائهم، وتوعدهم النظام بالانتقام!  

لكنهم لم يتراجعوا وقادوا المرحلة في ظروف شديدة التعقيد، وبعضهم لم يكن سياسياً، ولا مؤدلجاً، ولا محسوباً على جهة أو تيار؛ لكنهم قرروا أن يحملوا الأمانة وسط تجاذبات محلية، وإقليمية، ودولية رهيبة.

وهذا بالطبع ينتج أخطاء في التعامل والتعاطي مع ظروف موغلة في التعقيد والتداخل وصراع المصالح الدولي، وشتان بين المخطيء والمتعمد والخائن..
لقد حافظ أعضاء المجلس على وحدة ليبيا، وعلى استمرار وهج الثورة، وعلى عدم السماح لتيار أو توجه أن يفرض أجندته على الليبيين؛ رغم وجود تناقضات داخل المجلس الانتقالي وتركيبته غير المبرمجة.

وقام المجلس بالالتزام بالتوقيتات التي حددها الإعلان الدستوري المؤقت، وقاموا بتنظيم انتخابات حرة نزيهة بشهادة الجميع لأول مرة في تاريخ ليبيا، واحترموا نتائج الانتخابات، وسلمت السلطة، وقيادة البلاد للجسم المنتخب، وهو المؤتمر الوطني.” 

من هنا بدأت مرحلة الصراع السياسي المحتدم، وظهور تيارات وأجندات.

وهذا كله مقبول في اللعبة السياسية، ومن استحقاقاتها؛ ولكن للأسف لغياب الخبرة، والتراكم السياسي؛  وأيضا ً نتيجة لتدخلات خارجية لقوى كبرى استغلت عدم، وجود جسم يدعي أنه مسؤول عن الثورة، وعن حمايتها للتدخل السافر أحياناً في الشأن الليبي، والانحياز لجماعة سياسية دون أخرى.

اختفى أعضاء المجلس الانتقالي تقريبا جميعهم من المشهد السياسي، وقيدوا هم بأنفسهم دون أن يطلب أحد منهم ذلك ألا يشغلوا أي منصب تنفيذي؛ ومعظمهم إلى الآن في منأى ومعزل عن أي مواقع تنفيذية؛ بل وأنا هنا أسجل شهادة للتاريخ، بعضهم أي أعضاء المجلس الانتقاليكان يعجز عن توفير تكاليف حياته، وحياة أسرته،

وهنا استشهد بالسيد فتحي تربل” –عضو المجلس الانتقاليالذي كان قبل ثورة فبراير يتصدر مظاهرات أهالي سجناء بوسليم بنفسه كل يوم سبت، غير آبهٍ ولا مكترث بتهديد النظام الغاشم له، وتوعُّدِه للبطش به؛ والذي كان اعتقاله يوم 15 فبراير شرارة الثورة، وهاهو اليوم يعيش في مدينة مصراته عيشة ضنكاً يعجز أحياناً عن دفع إيجار بيته، ويهجّر من مدينته بنغازيالتي خرجت جموعها هادرة يوم “15 فبراير 2011م”  لتحاصر مديرية الأمن، وتجبر مسؤولي الأمن آنذاك على إطلاق سراحه؛ فكيف تتنكر له الجموع اليوم وتلفظه، وتعتبره سبباً فيما تسميها نكبة!

أكرّر وأقول: هل تتآمر الجموع على وجدانها و ضميرها ولحظاتها التاريخية الفارقة ؟ والعشرات.. بل المئات الذين تصدروا الصفوف، وحملوا أرواحهم على أكفهم، غير مبالين بمصائرهم التي كانوا سيؤولون إليها، لو أُجهضت الثورة – لاقدر الله – !

هؤلاء اليوم مطرودون من مدنهم وخاصة مدينة بنغازي“! مهجرون! ويعيشون في أسوأ الظروف.

ما هو الذنب الذي اقترفوه كي يعيشوا حياة الضنك وقسوة العيش والتهجير من بيوتهم.؟

هل لأنهم التحموا مع الحشود الغاضبة الثائرة، وتصدروا المشهد ولم يفكروا في العواقب الوخيمة التي تنتظرهم في أي وقت، والتي تحيق بهم من كل جانب؟

لا ينكر منصف أن هناك أخطاءً فادحة حدثت خلال سبع سنوات ومآسٍ تعرض لها جل الليبيين وانفلات أمني وفوضى وتصدّر موتورون وحاقدون وأصحاب أجندات للمشهد السياسي في ليبيا، وتردٍ للأوضاع الاقتصادية، وانقسام سياسي مريع.

نعم.. كل هذا حدث بعد” 17 فبراير؛ ولكن هذا لا يعني أنها مسؤولة عنه وأنها كانت انتفاضة مبرمجة ومؤامرة!

ليسأل كل ليبي نفسه هل حين خرج وتظاهر ولم يخش البطش والقتل، وحلم بوطن يليق به وبأسرته ،ويحقق فيه أحلامه.

هل كان متآمراً وعنده أجندة خارجية؟

أنا هنا أتحدث عن مئات الآلاف الذين اهتزت أرجاء ليبيا بصيحاتهم، وصلواتهم وشعاراتهم ؟

أيها الليبيون.. لا تبخسوا أنفسكم، ولا تتنكروا لثورة عظيمة شاركتم فيها بدمائكم ودموعكم وأشلائكم وأسقطتم نظاماً طاغياً مقيتاً.

حررتم ليبيا من قبضته الغاشمة. وقدمتم آلاف الشهداء وكانت النيةُ فيما نحسبخالصة لوجه الله ثم الوطن.

لا تتنكروا لتضحياتكم ولا تخجلوا من بطولاتكم ولا تخذلوا شهداءكم.

أكررفأقول.. نعم ثمة أخطاء تصل إلى مراتب كارثية؛ لكن ليست ثورة فبراير ولا التضحيات الجسام هي المسؤولة عنها ثورة 17 فبراير، والمجلس الانتقالي أوصل الشعب الليبي إلى قيمة عليا للديمقراطية، حرموا منها قرابةَ نصف قرن وهي قيمة التداول السلمي للسلطة وإنهاء حكم الفرد وتأليهه إلى الأبد.

 إن ثورة 17 فبراير وشهداءها وتضحياتها وأحداثها الجسام أبرياء من كل ممارسات الجهويين والميلشياويين وسراق السلطة والمتطرفين على جميع أشكالهم والناهبين والحاذقين.

وفي هذا السياق أؤكد على مقترح سبق وأن نوهت إليه كثيراً في أكثر من مناسبة للخروج من هذه الدوامات المعتمة في حالة تعثر الاستفتاء الشعبي على مسوّدة الدستور بسبب الظروف الأمنية وغيرها من المعطيات المعقدة.

المقترح وهو العودة بشكل مؤقت إلى دستور المملكة الذي يتوافق عليه جل الليبيين، مع إدخال التعديلات الضرورية التي تفرضها الأوضاع والتطورات المجتمعية والسياسية؛ وذلك لمدة محدودة خمس سنوات مثلاً، حتى تستقر أمور البلاد ويهنأ العباد.

ولنا في جمهورية جنوب إفريقيا قدوة حسنة في هذا الشأن. ليكون ذلك منطلقاً لبناء ليبيا الجديدة الحرة السعيدة المتطلعة نحو العلا و للحاق بالدول المتقدمة في شتى المجالات.
***

عبدالرزاق المختار سفير ليبيا لدى تركيا

____________

مواد ذات علاقة