بقلم فريدريك  ويري و كاثرين بولوك

سيتطلّب أي حل لفقدان الأمن على الحدود التونسيةالليبية له حظ من الديمومة مقاربة أوسع، تنطوي على إقامة مؤسسات إصلاحية، وتوفير فرص تنمية بديلة، ومكافحة الفساد، وترقية سياسات التجارة الثنائية.

الجزء الثاني

الحاجة إلى مقاربة أوسع

على رغم هذه الوقائع الاجتماعيةالاقتصادية الصعبة ومعها الممانعة المحلية، لم تفعل الجهود الدولية سوى التركيز في الغالب على الإجراءات الأمنية، على غرار تعزيز الحدود والإطباق على عمليات التهريب.

مثلاً، تُواصل وكالة خفض التهديدات الدفاعية التابعة للحكومة الأميركية استخدام منحة قُدِّمت العام 2016 بقيمة 24.9 مليون دولار، لإقامة نظام مراقبة أمنية إلكترونية على طول الحاجز الذي يغطّي نحو نصف طول الحدود.

وفي غضون السنوات القليلة الماضية، كانت ألمانيا هي الأخرى تساهم في هذا الجهد، وقدّمت زهاء 41 مليون دولار لتوفير أجهزة مراقبة ورصد مُتحركة. أما الحاجز، الذي بنته تونس بمساعدة وكالة خفض التهديدات، فهو كناية عن نظام من المتاريس يشمل أكواماً رملية، وخنادق مليئة بالماء، وأسوارا.

إضافةً إلى هذا الجهد الأميركيالألماني المشترك، ينخرط الاتحاد الأوروبي في جانب من جهود المساعدة في مجال الأمن الحدودي.

ففي 26 تشرين الثاني/نوفمبر2017، طرحت بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة في إدارة الحدود في ليبياورقة مفاهيمية تُحدد مقاربتها للأمن بمعناه الواسع ولكيفية إدارة الإصلاح في ليبيا.

وفي 14 شباط/فبراير، وقّع كلٌ من رئيس بعثة المساعدة، فنسنزو تاغليافيري، ووزير العدل الليبي، محمد عبد الواحد عبد الحميد، مذكرة تفاهم تُضفي الطابع الرسمي على التعاون الثنائي.

هذه الاتفاقية توسّع صلاحيات بعثة المساعدة بهدف تكريس الأسس الراسخة لحكم القانون في ليبيا، كما تزوّدها بانتداب أشمل لمساعدة وزارة العدل الليبية وباقي الهيئات المُعتمدة عليها. وقد منح الاتحاد الأوروبي البعثة 20 مليون دولار لمدة 16 شهراً لدعم هذه الصلاحية.

وفي هذه الأثناء، عقدت البعثة مع وزارة الداخلية الليبية اجتماعاً تنسيقياً لمكافحة الجريمة المنظّمة والخطيرة،  بما في ذلك التهريب والمتاجرة غير المشروعة.

كان الانخراط مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية حول التهريب، وجهاً آخر من وجوه الجهود الدولية لمعالجة قضية الحدود. وكما هو معروف، مؤسسة النفط طرف أساسي معنيٌ بالعلاقات التونسيةالليبية، وهي صدحت بضرورة شن الحملات على تهريب الوقود على الحدود التونسية وفي كل أنحاء ليبيا.

ووفقاً لرئيس المؤسسة، مصطفى صنع الله، يكلّف تهريب الوقود الاقتصاد الليبي أكثر من 750 مليون دولار سنويا. وفي شباط/فبراير 2018، التقى غسان سلامة، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، صنع الله واتفق معه على العمل سوياً لمكافحة محاولات الجماعات المسلحة انتزاع موطئ قدم لها في قطاع النفط الليبي، وأيضاً لتوسيع معطيات الشفافية حيال عائدات النفط الليبية“.

وتلا هذا الاجتماع في نيسان/إبريل 2018 بيان من مؤسسة النفط حول مبادرة كبرى لمكافحة التهريب، تضمّنت وضع علامات على الوقود لتوفير الدليل على التهريب؛ وتشجيع العقوبات الدولية والملاحقة القضائية للمهربين، وترقية الإصلاحات في نظام الدعم الليبي.

بيد أن الشروخ والعقبات البيروقراطية والسياسية طفت على السطح وعرقلت هذه الجهود: ففي 14 شباط/فبراير، حلّت شركة تابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، هي شركة البريقة لتسويق النفط، لجنة كانت تكافح (منذ العام 2015) تهريب الوقود والغاز في غرب وجنوب ليبيا، وأقالت رئيسها ميلاد الهجرسي.

وتلا ذلك بيان جاء فيه أن اللجنة كانت في الواقع جبهة غير شرعية لمكافحة التهريب، وبأن الهجرسي قيد التحقيق. هذه الخطوة دفعت مجموعة مسلّحة في طرابلس إلى الإغارة على مكاتب شركة البريقة، مُرفقة بإطلاق تهديدات ضد مديرها بسبب إقالته الهجرسي.

وقد زعم أنصار هذه الأخير أن هدف الإقالة كان تقويض شعبيته المتنامية ومصداقيته السياسية (خاصة حيال مؤسسة النفط وشركة التسويق)، بعد أن أعلن عن نجاحه في حل مشكلة نقص الوقود في غرب ليبيا.

بيد أن مراقبين ليبيين آخرين تكهّنوا بأن الضغوط من قبل الفصائل الليبية كانت أصلاً قيد العمل هنا، وعلى قدم وساق أيضا. على أي حال، أبرز هذا الحادث مدى التهالك المتواصل لمؤسسات الدولة الليبية، بفعل الشروخ السياسية والاقتصادية، والتهديد المتصاعد لهذه المؤسسات على يد المجموعات المسلحة.

وبالتالي، يتعيّن على الأطراف المحلية والدولية، إذا ما أرادت المضي قدماً، أن تستكمل الإجراءات الأمنية عبر التركيز أكثر على الاقتصاد غير الرسمي عبر الحدود، ومواصلة دعم موارد معيشة العديد من البلدات الحدودية.

إذ من دون مشاركة وانضمام المُستفيدين المحليين من هذا الاقتصاد (بما في ذلك الكارتلات وكذلك السكان)، يُرجّح أن تتداعى الحلول التكنولوجية والأمنية. وهكذا، وبدلاً من القيام ببساطة بإغلاق الحدود، يجب على السلطات المحلية أن تميّز بين الظواهر الآنية المُجحفة، كتهريب البشر والأسلحة، وبين عمليات التهريب الصغيرة للسلع كالوقود والسجائر.

علاوة على كل ذلك، يجب على الجهود الأمنية أن تترافق في الوقت نفسه مع سياسات عملية على الأرض للمساعدة في تخفيف وطأة الضغوطات الاجتماعيةالاقتصادية التي تمس السكان على ضفتي الحدود.

وهذه الجهود يمكن أن تركّز على توفير موارد دخل بديلة، من خلال زيادة القدرة التنافسية الزراعية، وإدخال إصلاحات على ملكية الأراضي، والتدريب على المهارات، وتحسين البنى التحتية، والاستثمار في مشاريع التنمية.

كما يمكن للأطراف الدولية أن تدعم هذه المبادرات، على وجه الخصوص من خلال تخصيص المساعدات الاقتصادية والدعم  للمناطق الحدودية.

على رغم أن عدداً كبيراً من المهربين يتمتعون بقدر واسع من النفوذ، إلا أن القطاع غير الرسمي يفتقد إلى القنوات التمثيلية كالنقابات والروابط المهنية، ماجعل صغار التجار عاجزين عن بلورة وحشد الدعم لمطالبهم السياسية والاقتصادية من الحكومة.

ثم أن هذا يجعل الحكومات مُفتقدة إلى المعلومات الكافية حول القطاع غير الرسمي. لتصحيح هذا الأمر، ينبغي أن تركّز السياسات الأوسع على ترقية الروابط التي تدعم أولئك  المنخرطين بنشاط في القطاع غير الرسمي.

إضافة إلى ذلك، تُعتبر إعادة العلاقات الاقتصادية الثنائية أمراً حاسماً، وقد تم بالفعل تحقيق نوع من التقدم على هذه الجبهة.

فمجلس الأعمال التونسي– الليبي تأسس في نيسان/أبريل 2018 لاستعادة العلاقات الاقتصادية الثنائية وتعزيزها. ومؤخراً، أعلن وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي ورئيس الوزراء الليبي فايز السراج عن نيتهما الدعوة إلى استئناف الرحلات الجوية وتطبيع العلاقات التجارية.

وفي الوقت نفسه، أدى قانون المالية التونسي العام 2016 إلى تبسيط وخفض الرسوم على العديد من السلع، بيد أن بعض البضائع المستوردة بقيت خاضعة إلى معدلات رسوم شاهقة بلغت 200 في المئة، وهو عامل يُحتمل أن يُعزّز التهريب عبر الحدود.

بالاجمال، يتعيّن أن تُعالجَ سياسات الرسوم والدعم غير المُتناظرة هذه في ليبيا وتونس، من خلال زيادة التعاون الاقتصادي الذي يتضمن العمل بشكل متّسق بين البلدين على تحسين الوضع الحدودي.

وهنا تتراوح توصيات السياسة العامة بين تنسيق معدلات الرسوم والضرائب وبين تشجيع صفقات الاستثمار الثنائي، وصولاً حتى إلى إقامة منطقة تجارة حرة إقليمية.

على كل حال، لايزال ثمة الكثير للقيام به في كلٍّ من الحلبتين الأمنية والاقتصادية.

أما التركيز على الجانب الأمني وحسب، فسيفشل في الحد من التهريب والاتجار غير المشروع، وستكون له تأثيرات سلبية واسعة النطاق على معيشة مواطني الحدود. إذ هو سيهدّد في خاتمة المطاف الاستقرار الإقليمي كنتيجة لتفاقم التنافس بين الميليشيات، واندلاع الاحتجاجات العنيفة، وحتى عودة الحركات الجهادية مجدداً إلى الساح، بسبب غياب الفرص الاقتصادية البديلة.

يجب أن تترافق المساعدات الأمنية الدولية مع استراتيجية اجتماعيةاقتصادية، ومع إيلاء اهتمام أكبر لإصلاح المؤسسات الأمنية، ومكافحة الفساد، وفي حالة ليبيا دعم المصالحة السياسية الوطنية.

***

فريدريك ويري ، زميل أقدم ، برنامج الشرق الأوسط

ك اثرين بولوك كانت زميلة في عام 2017-2018 في جامعة كارنيجي
_______________

مواد ذات علاقة