بقلم فهد سليمان

الدولة المدنية، الدولة الوطنية، الدولة – الأمة مفاهيم، مصطلحات، صيغ في التدبير السياسي للمجتمعات الإنسانية، تلتقي فيما بينها وتلبّي عملياً نفس المعنى.

.

.الجزء الأول

الدولة المدنية والدولة الدينية

الدولة المدنية، تعبّر عن واقع كيانات سياسية تستند إلى مجموعة من الأسس، مفتاحها مفهوم المواطن (والمواطنة)، والشعب مصدر السلطة، واستقلال الحيّز العام عن الحيّز الخاص، واستقلال مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية (ما يسمى بفصل الدين عن الدولة، ولكن ليس فصل الدين عن المجتمع)، واستقلال السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) عن بعضها البعض.

الدولة الدينية، بالمقابل، تعتبر أنها الوحيدة القادرة على إقامة وحدة عضوية بين النظام الروحي والنظام الدنيوي، باعتبارها ترتكز في أدائها لوظائفها إلى أساس مُنزَّل.

وهذا الأساس هو الوحيد القادر على توحيد القوانين الطبيعية التي خلقها الله مع القوانين الوضعية التي تستند إليها، ولا تخرج عنها إلا بحدود تأويلها.

ولذلك، فإن مصدر التشريع هو الشريعة، باعتبارها مُنزَّلة، وباعتبار أن الحاكمية هي لله وحده.
هذا التعريف لكل من الدولة المدنية والدولة الدينية هو مقاربة أولية، نعتبرها كافية في توضيح مفهوم الدولة بصيغتيها المدنية والدينية.

لكن هذه المقاربة – بطبيعة الحال – لا تراعي تنوّع الإجتهادات والتطبيقات في هذا الحقل، بنتيجة تضافر عوامل عدة: الشرط الموضوعي السائد، التكوين الإجتماعي، المسار التاريخي، البيئة الثقافية، ما يجعل الواقع العملي أكثر تنوعاً وتعقيداً،

خاصة إذا أخذنا في الإعتبار أن تحديد صيغة الدولة هو – في التحليل الأخير – نتاج لعملية صراع وتجاذب في المجتمع قد تبقى مفتوحة على جولات لاحقة، أو تتوج بحصيلة ما، توافقية أو أقل توافقية، مستقرة نسبياً أو قلقة، بحسب ما تتمخض عنه نسبة القوى السياسية، المجتمعية، المنخرطة في هذا الصراع.

إن الحدود الفاصلة ما بين الدولة المدنية وبين الدولة الدينية واضحة تماماً، وجوهرها يدور حول منبع التشريع، ومصدر السيادة، والمساواة في المواطنة.

وفي القلب من كل هذا يقف الشعب كمرجعية عليا، والمواطن – موضوعياً كقيمة قائمة بذاتها.

غير أن هذه الحدود الواضحة لا يجب أن تتحول إلى خطوط جامدة، فالإنفتاح على الآخر، والتفاعل معه يوسع مساحات التلاقي ويعزرها، لكنه لا يلغي المساحات الخاصة، وإن قلَّصها.

يحتدم النقاش في المنطقة العربية حول صيغة الدولة التي سينتظم من خلالها الإجتماع السياسي.

وفي حلبة الصراع تتواجه في أكثر من بلد (بما فيه المناطق الفلسطينية المحتلة)، تتواجه دساتير معتمدة ومشاريع دساتير، أو تعديلات جوهرية على دساتير قائمة، أو مشاريع قوانين خاصة بالأحوال الشخصية، وغيرها من قضايا المجتمع.

وقد يتهيأ للبعض أن رؤية الإسلام السياسي بشكل عام تشق طريقها نسبياً في بلداننا، باعتبارها حققت نتائج وتَعِدُ نفسها بالمزيد.

ولهذا الرأي ما يسنده بكل تأكيد في حقائق المشهد الجارية فصوله أمام أي مراقب متابع.

ومع ذلك، فباعتقادنا أنه من المبكر التنبؤ بمآل هذا الحِراك، حيث لا يجب التقليل من شأن الهزائم أو التراجعات التي مني بها الإسلام السياسي في بعض البلدان (مصر، تونس، سوريا،..).

فمشكلة قوى الإسلام السياسي (ولا نتكلم هنا عن الإتجاهات التكفيرية المندحرة، التي منها الدين براء) أنها تبرع في المعارضة وتفشل في الحكم، لافتقادها إلى البرنامج الملبي للواقع واحتياجاته، من جهة، وخلطها بين الدعوي والسياسي، من جهة أخرى، وتفردها بممارسة السلطة إحتكارياً، من جهة ثالثة.

هذا في الوقت الذي يتطلب فيه الوضع العربي، وفي كل بلد على حدة، أقصى درجات التعاون بين قوى واتجاهات متعددة المشارب والرؤى، على قاعدة برنامج مشترك يستظل بالديمقراطية المنفتحة على التعددية، برنامج محوره إستكمال مهام التحرر الوطني، والحرية، والحياة الكريمة، والعدالة الإجتماعية.

الدولة المدنية والليبرالية

الدولة المدنية تعبِّر عن واقع كيانات سياسية إجترحها الفكر الليبرالي البورجوازي مع صعود البورجوازية في الغرب عموماً، كطبقة سياسية حاكمة، ترافق تدرجها مع انتصار نمط الإنتاج الرأسمالي كنمط مسيطر، أزاح نمط الإنتاج الإقطاعي الآفل، وحلَّ مكانه.

يقوم الفكر الليبرالي – مبدئياً – على قيمتي الحرية والمساواة، والأخيرة تتحرك على مستوى الحقوق السياسية، ولا تشمل الحقل الإقتصادي، حيث تسود «قدسية الملكية الخاصة في المجتمع»، وبالذات في محراب وسائل الإنتاج، والتمويل، والتداول، الخ..، نقيض الطابع الإجتماعي/ الجماعي الغالب لإنتاج الخيرات المادية في المجتمع.

 المساواة، في نهج الليبرالية البورجوازية، لا تمتد إلى الحقل الإقتصادي، فالديمقراطية الليبرالية، اقتصرت في بدايتها على «المالكين» دون سائر شرائح المجتمع (الفئات الوسطى والكادحة)، ولم تمتد إلى عموم الشعب، إلا بعد عقود من الصراع الإجتماعي.

إن الديمقراطية الليبرالية، فيما استقرت عليه، تتويجاً لمرحلتها التأسيسية، هي ديمقراطية سياسية بالأساس، وليست ديمقراطية إجتماعية؛

ولا يغيِّر في هذا جوهرياً إعتماد مدارس معيّنة من الليبرالية، ذات المنزع الإجتماعي، صيغ معيّنة من العمل الخدماتي، الخيري، والتعاضدي المجتمعي.

 لقد فُرِضَ البعد الإجتماعي على الليبرالية كمنظومة معتمدة (وإن بحدود ترسمها نسبة القوى في المجتمع المعني) في البنية الإقتصادية – الإجتماعية، من خارج الليبرالية، ولم يكن خيارها الأول.

لقد تطلّب الأمر خوض الطبقة العاملة وسائر الكادحين نضالات سياسية ومطلبية موصولة ومكلفة، قبل أن ترسو الأمور على مفاهيم وصيغ العدالة الإجتماعية، التي اكتست أشكالها الأكثر تقدماً في ما يُسمى بلدان/ أنظمة الرفاه الإجتماعي.

أما المساواة الإقتصادية (وبالتالي الإجتماعية)، فهي من سمات المجتمع الإشتراكي القائم على الملكية القانونية المجتمعية لوسائل الإنتاج، بمرجعية السلطة السياسية المجتمعية، الرقابية والتقريرية.

إن ارتياد آفاق المجتمع الإشتراكي يقتضي إنجاز مجموعة من التحولات الجذرية (الطبقية، الإقتصادية، السياسية، القانونية، …)، لسنا بواردها في هذا السياق.

يتبع في الجزء الثاني

***

فهد سليمان – كاتب فلسطيني ونائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

____________

مواد ذات علاقة