بقلم د. علاء عبد الحفيظ

الديموقراطية هي مجموعة من القواعد التي تحكم العملية السياسية بحيث تحقق قدراً أكبر من المشاركة في السلطة والثروة: رأسياً (بين الحاكم والمحكومين) وأفقياً (بين القوى والجماعات السياسية)

الجزء الرابع

4- الديموقراطية التوافقية Consociational Democracy

يأخذ بهذا النظام الديموقراطي عدد من النظم التعددية الصغيرة في أوروبا مثل هولندا والنمسا وبلجيكا. كما أن هناك دولاً أخرى مشابهة خارج أوروبا تأخذ به مثل لبنان.

يقوم الجوهر المميز لهذا النظام على إدراك وجود ميول صراعية متأصلة في البنية التعددية الاجتماعية، أي تواجد طوائف أو جماعات دينية ولغوية وعرقية تقابلها ميول تعاونية أو تصالحية على مستوى زعماء هذه الجماعات. وتكمن أهمية هذا الاتجاه التصالحي النخبوي في كونه يعمل على “كبح جماح العنف على صعيد الجماهير وبالتالي تحقيق الاستقرار السياسي”.

  وتنهض الديموقراطية التوافقية على الأسس الأربعة التالية:

أالائتلاف الكبير

يضم الائتلاف الكبير ممثلين لمختلف المجموعات التي يتكون منها المجتمع. وبشكل يضمن أن تكون السياسة مقيدة لكل الأطراف، وبما يقلل إلى حد كبير من فرصة قيام أحد الأطراف بخداع بقية الأطراف الأخرى، وبما يشكل حافزاً مهماً لها لكي تعمل معاً في إطار من الاعتدال والتوفيق.

وقد يتخذ هذا الائتلاف إطاراً مؤسسياً في شكل مجلس تنفيذي على نحو “المجلس الفيدرالي” القائم في سويسرا، والمكون من سبعة أعضاء يمثلون الأحزاب السياسية واللغات والمناطق المختلفة. كما يتخذ الائتلاف شكل لجان أو مجالس دائمة أو مؤقتة على نحو ما تقدمه الخبرة الهولندية، والتي لا تأخذ بالتالي شكلاً تنفيذياً مؤسسياً مماثلاً للنمط السويسري.

بالفيتو المتبادل

هو حق مقرر لسائر المجموعات في الائتلاف الكبير، ومن ثم فهو يُعد بمثابة الضمانة الأساسية لحماية مصالح الأقلية، كما يشكل مصدراً للشعور بالأمن باعتباره سلاحاً متاحاً أمام كل من المجموعات أعضاء الائتلاف.

وبالتالي فإن تكرار استخدامه من قبل إحدى المجموعات يُعد بدوره أمراً مستبعداً نظراً لوجود الفرصة أمام باقي المجموعات لاستخدامه ضدها، مما سيترتب عليه إلحاق الضرر بمصلحة تلك الجماعة.

جالتناسب: Proportionality

يُقصد به توزيع المناصب السياسية والإدارية والموارد المالية على كل المجموعات حسب أوزانها العددية، ومن ثم فإنه، وفي حالة تشكيل صنع القرار على أساس مبدأ التناسب، تبرز مشكلة ضمان تحقق التأثير النسبي إذا كان القرار يحتمل القبول أو الرفضغياب الإجماع في هذه الحالةوعلى نحو ما تذكر موسوعة العلوم السياسية، ويؤدي ذلك بالضرورة إلى وجود رابحين وخاسرين.

وهنا تبرز البدائل ممثلة في التنازلات المتبادلة من جانب، وفي معالجة عدة موضوعات معاً فيما يُعرف باتباع أسلوب الحزمة، وتفويض قادة الائتلاف في القرارات المصيرية.

دالاستقلال الطائفي: Segmental Autonomy

يشير الاستقلال الطائفي إلى تولي كل طائفة سلطتها النهائية على شئونها الخاصة، وخارج إطار الموضوعات والمسائل ذات الاهتمام المشترك.

يتضح مما سبق أن استقرار وفعالية النظام يظل رهناً بتوافر عدة خصائص محددة لابد وأن تتوافر في القادة وأن تميز ممارساتهم السياسية.

وتتضمن تلك المتطلبات: الوعي بمخاطر التعددية الاجتماعية وإدراك سلبياتها على التماسك والاستقرار السياسي، والالتزام التام والدائم بالحفاظ على الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي باعتبارهما المصدر الجوهري لبقاء الاتحاد وفعاليته، وكذلك التمسك بروح الاعتدال والتسامح والقدرة على التوفيق وصياغة الترتيبات المؤسسية وإجراءات التوفيق بين مصالح مختلف الجماعات.

وفي المقابل، فإن من أبرز المخاطر التي تواجه هذا النوع من الديموقراطيات انتشار روح واتجاهات العزلة الطائفية، اختلال التوازن الداخلي، التدخلات والتهديدات الخارجية.

رابعاً: المداخل الرئيسية لتحليل العملية الديموقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية:

سعى الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية إلى تأسيس حكومة شعبية تكون مستقرة وعادلة وحرة، في الوقت الذي تضمن فيه الأمن للمواطنين والممتلكات.

ومن هنا فإن ادعاء القادة الشرعية لا يرجع فقط إلى أنهم انتخبوا كمسئولين، وإنما إلى أن سلوكهم وصفاتهم كانت ممتازة. وقد استخدموا مصطلح “حكومة شعبية”، وليس “ديموقراطية”، حيث كانوا مدركين للمشاكل التي واجهت النظم الديموقراطية القديمة التي كانت أقل استقراراً، ولم يكن النظام الديموقراطي هو النظام الذي يحظى بأكبر قدر من الاهتمام آنذاك.

ويمكن القول إن هناك أربعة مفاتيح رئيسية لتحليل آليات عمل النظام الأمريكي، وهي:

1- الولايات المتحدة دولة فيدرالية

تعتبر الفيدرالية من أهم المفاتيح التي يمكن من خلالها الاقتراب من التفاعلات السياسية. فمنذ كتابة الدستور الأمريكي وحتى هذه اللحظة، لم يتوقف الجدل حول حدود الدور المنوط بالحكومة الفيدرالية مقابل ما ينبغي أن يظل من اختصاص حكومات الولايات، وهو الجدل الذي يتخلل الخطاب العام بشأن كل القضايا تقريباً ويلعب دوراً محورياً في صناعة القرار بشأن كل منها.

ومن ثم أنشأ الدستور الأمريكي نظاماً فيدرالياً يقوم في جوهره على مبدأ الرقابة والتوازن Checks & Balances كان هدفه الرئيسي هو تقييد كل المؤسسات السياسية عبر إعطاء غيرها صلاحيات واسعة للرقابة عليها وقمعها إذا ما تمادت في استخدام تلك الصلاحيات أو سعت لابتلاع صلاحيات غيرها.

فتم إنشاء حكومة فيدرالية مكونة من مؤسسات ثلاث “تشريعية وتنفيذية وقضائية” توزعت صلاحيات كل منها على نحو لا يسمح لها بالانفراد بصنع القرار، هذا فضلاً عن تنظيم العلاقة بين تلك الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات على نحو يجعل كلاً منها رقيبة على الأخرى، ومشاركة لها في صنع القرار في نفس الوقت.

فقد ذكر الدستور صلاحيات بعينها للحكومة الفيدرالية وأخرى لحكومات الولايات، وصلاحيات ثالثة يتقاسمها الطرفان، ثم نص على أن كل ما لم يرد ذكره من صلاحيات يظل من اختصاص الولايات.

وعلى ذلك، فقد أرسى الدستور علاقة جعلت كل طرف رقيباً على الآخر قادراً على ردعه عند اللزوم، بما لا يمكن أياً منهما من انتهاك الحريات الفردية.

وعلى الرغم من المد والجزر المستمر في طبيعة التوازن بين الطرفين، تظل العلاقة في جوهرها علاقة شراكة، فالحكومة الفيدرالية لا يمكنها في الواقع تنفيذ القوانين التي تصدرها دون تعاون حكومات الولايات، وحكومات الولايات لا يمكنها تنفيذ سياستها دون الأموال الفيدرالية التي تأتي إليها في شكل “منح” بعضها مشروط بانصياع الولايات لقواعد بعينها تفرضها الحكومة الفيدرالية.

وربما تكون طبيعة العملية الانتخابية هي أحد أهم تجليات الطابع الفيدرالي للدولة، فهي عملية بالغة التعقيد والتشابك، لأن القواعد والقوانين الحاكمة لها تختلف اختلافات كبيرة من ولاية لأخرى.

نص الدستور الأمريكي على انتخاب الرئيس انتخاباً غير مباشر عبر ما يُسمى المجمع الانتخابي، والمجمع الانتخابي عبارة عن مجموعة من المنتخِبين Electors يتم وفق شروط يحددها المجلس التشريعي في كل ولاية، ويساوي عددهم عدد أعضاء هذه الولاية في مجلسي النواب والشيوخ معاً.

ومن ثم فإن مجموع عدد أعضاء المجمع الانتخابي 538 منتخِباً، وهو عدد ثابت، لأنه مساو لعدد أعضاء مجلس الشيوخ “100 عضواً” ومجلس النواب “435 عضواً”، فضلاً على ثلاثة أصوات لواشنطن العاصمة.

ويقوم انتخاب الرئيس عبر قاعدة الفائز يحصل على كل شئ Winner Takes All بمعنى أن المرشح الذي يحصل على أعلى نسبة من الأصوات الشعبية في الولاية “أي أصوات الناخبين” يفوز بكل أصوات تلك الولاية في المجمع الانتخابي، بينما لا يحصل منافسه على شئ على الإطلاق، ولا يُشترط أن تكون النسبة الأعلى هذه أغلبية بالضرورة.

ومن هنا يأتي التباين الكبير بين الأصوات “الشعبية” التي يحصل عليها المرشح والأصوات “الانتخابية”.

أما الكونجرس فيتكون في إطار الصيغة الفيدرالية من أعضاء يمثلون ناخبيهم بالدرجة الأولى، سواء كان ذلك التمثيل للولاية بأكملها “في مجلس الشيوخ” أم أحد دوائرها “في مجلس النواب”.

وتؤثر الفيدرالية أيضاً على طبيعة المؤسسات السياسية نفسها، فالصيغة الفيدرالية وحدها هي التي تشرح طبيعة الاختلاف بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ.

فقد نشأ مجلس الشيوخ لحماية الولايات الأصغر التي قد تجد نفسها في موقع الأقلية في مجلس النواب الذي يقوم التمثيل فيه على أساس عدد السكان. ومن ثم عكست كل القواعد الحاكمة لعمل مجلس الشيوخ ذلك الطابع، فصار المجلس يعطي حقوقاً هائلة للأقلية – أية أقلية – خصوصاً من الناحية العددية.

فعلى سبيل المثال، فإن الكثير من عمل مجلس الشيوخ يتم عن طريق أغلبية الثلثين، لا الأغلبية البسيطة، كما هو الحال في مجلس النواب، الأمر الذي يعطي ثقلاً كبيراً للأقلية، حيث يصبح بإمكانها إبطال ما تريده الأغلبية، إذا لم تكن هذه الأغلبية قوية متماسكة.

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ طبيعة التوازن بين المؤسسات السياسية الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية

_____________

مواد ذات علاقة