بقلم زاهي المغيربي و نجيب الحصادي

نقف في هذه الورقة على الأطر النظرية المقترحة في أدبيات العلوم السياسية لتحليل عملية التحول الديمقراطي، كي نستعين بها في تشخيص التحديات التي تواجه هذه العملية في ليبيا، ثم نعرض مآلات قد يفضي إليها الفشل في إتمامها، وفرصا متاحة للحول دون فشلها، ونختتم بمحاولة تفسير تأخر الليبيين عن جيرانهم في طي صفحتهم الانتقالية.

الجزء الثالث

تحديات التحول الديمقراطي في ليبيا .. تتمة

ب ـ ضعف مؤسسات الدولة

نقف في هذا الجزء على طبيعة أداء بعض مؤسسات الدولة الليبية لنتعرف على قدرتها على تحمل أعباء هذه العملية، ولتحديد ما إذا كانت قطعت أي شوط في مسار تفكيك الدولة المسيطرة التي هيمنت إبان النظام السابق.

ـ سوء أداء المؤسسات التشريعية والتنفيذية الانتقالية

يرتهن نجاح عملية الدمقرطة لوجود قيادات سياسية كفؤة تتبنى الديمقراطية خيارا استراتيجيا والتزاما وتعهدا وطنيا. غير أن المتأمل في الدور الذي قامت به القيادات السياسية الليبية بعد ثورة فبراير سرعان ما يكتشف أنها لم تقم بما يكفي في هذا الصدد.

وفيما يتعلق بالمجلس الانتقالي تحديدا، عبرت “هيومان رايتس وتش” عن قلقها من ضعف درجة الشفافية، فلم يكن عموم الناس يدرون بما يدور في ردهات هذا المجلس، بل كانوا يتوجسون من سيطرة وتنفذ أصحاب توجه بعينه.

وعلى المستوى التشريعي، كان هناك غياب واضح لأي تحديد للمسؤوليات، أفضى إلى تداخل في الاختصاصات وجدل مستمر مع المكتب التنفيذي.

ورغم الميزانيات الضخمة المخصصة، فشلت المجالس التشريعية والحكومات المتعاقبة في وضع حلول ناجعة لتحريك عجلة الاقتصاد الوطني، ومعالجة مشاكل المركزية، ومواجهة انتشار السلاح والتشكيلات المسلحة، وبناء الجيش الوطني، وقد كان لذلك تأثير سلبي على ثقة المواطنين في مؤسسات المرحلة الانتقالية وقياداتها السياسية.

وتؤثر درجة الثقة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية على مدى قبولها والإحساس بشرعيتها، وتشكل من ثم مؤشرا حاسما على جودة أدائها.

وقد تبين من “المسح القيمي الشامل” انخفاض درجة ثقة الليبيين، مقارنة مع نظائرها عند شعوب أخرى، في المؤسسة العسكرية (القوات المسلحة) والمؤسسة الأمنية (الشرطة) والمحاكم (السلطة القضائية) والبرلمان (السلطة التشريعية) والحكومة المركزية في العاصمة (السلطة التنفيذية).

ففي ذلك المسح، أبدى 59.9% من التونسيين و49.4% من الليبيين و38.1% من اليمنيين درجة عالية أو كبيرة من الثقة في القوات المسلحة، بينما عبر 81.6% من الأمريكيين و52% من السويديين عن ذلك.

ويمكن إرجاع شعور أغلبية التونسيين بالثقة في مؤسستهم العسكرية إلى الدور الإيجابي الذي قامت به قواتهم المسلحة خلال الثورة وإلى عدم تدخلها في الحياة السياسية.

وقد يعزى انخفاض درجة الثقة في اليمن إلى دور المؤسسة العسكرية في تأييد النظام السابق، وتدخلها المباشر في العملية السياسية.

أما انقسام الليبيين في هذا الصدد فقد يكون استجابة لطبيعة التجربة الليبية. فمن جهة، تعكس عدم الثقة في المؤسسة العسكرية النظرة السلبية لانقلاب 1969 وطبيعة الحكم العسكري الذي هيمن على البلاد وأدى إلى تخلفها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إلى جانب أن الكتائب الأمنية المحسوبة على القوات المسلحة الليبية وقفت مع النظام السابق حتى النهاية.

ومن جهة أخرى، يمكن إرجاع موقف الواثقين في المؤسسة العسكرية إلى انشقاق عدد كبير من ضباط وجنود القوات المسلحة مبكرا، ورغبة المواطن الليبي في وجود مؤسسة عسكرية قوية في خضم فوضى السلاح السائدة.

وبطبيعة الحال، لا يتعين موضع ثقة الليبيين، وحال الانفلات الأمني كما ذكرنا، في قدرة المؤسسة العسكرية الفعلية على فرض سيطرتها واستعادة هيبة الدولة.

وفيما يتعلق بالمؤسسة الأمنية (الشرطة)، عبّر 59.1% من التونسيين و55.2% من الليبيين و50.3% من المصريين عن ثقة عالية أو كبيرة في المؤسسة الأمنية، ولعل هذا الموقف لا يعكس الثقة في الأداء السابق أو الحالي للمؤسسة الأمنية بقدر ما يعكس الحاجة إلى وجود مؤسسة أمنية توفر الأمن والاستقرار.

أما درجة الثقة في المحاكم فتبلغ 54.4% في مصر و53.1% في ليبيا و47.4% في تونس و20.3% في اليمن، وهي تعكس الرغبة في تفعيل المؤسسة القضائية لإحقاق الحقوق وإقامة العدل، فيما يعكس ارتفاعها في السويد (75.5%) مدى مأسسة القضاء فيها، ويعكس انخفاضها في الولايات المتحدة الأمريكية (53.8%) النظرة السلبية عند الأقليات لدور المحاكم وتحيزها ضدهم.

وتبين نتائج المسح فيما يتعلق بدرجة الثقة في المجالس التشريعية تشابها كبيرا بين مواطني بلدان الربيع العربي، فجميعهم عبروا عن درجة منخفضة من الثقة فيها، حيث لم تتجاوز 5.9% في تونس و9.9% في اليمن و13.6% في ليبيا و25.3% في مصر، ويعكس ذلك تجربة هؤلاء المواطنين مع هذه المجالس، سواء من حيث خضوعها الكامل للنظم السابقة أم من حيث سوء أدائها وعجزها عن تسيير شؤون الدولة.

في المقابل فإنها تصل في السويد إلى 59.3%، فيما تنخفض في الولايات المتحدة الأمريكية (20.2%) ربما بسبب حالة العداء والشك التقليدي تجاه السلطات الفيدرالية المركزية بصفة عامة.

ولا يختلف الأمر فيما يتعلق بدرجة الثقة في الحكومة المركزية في العاصمة، حيث عبر 17.8% من التونسيين و22.5% من الليبيين و27.5% من اليمنيين و54.4% من المصريين عن ثقة عالية أو كبيرة فيها.

ويمكن تفسير عدم ثقة مواطني تونس وليبيا واليمن في حكوماتهم بسياسات التهميش والغبن التي مورست ضد سكان الأقاليم البعيدة عن العاصمة.

أما درجة الثقة في الحكومة المركزية في العاصمة عند السويديين (59.9%) وعند الأمريكيين (32.6%) فترجع إلى العوامل نفسها التي حددت درجة ثقتهم في السلطة المركزية.

ومجمل القول إن أداء المؤسسات التشريعية والتنفيذية الانتقالية في ليبيا لا يرقى إلى استحقاقات المرحلة، فدرجات الثقة في هذه المؤسسات منخفضة إلى حد يعكس عدم رضا المواطنين عن هذا الأداء. وكما يتضح في الفقرات التالية، فإن سوء أداء هذه المؤسسات من بين أسباب التشكيك في شرعيتها.

ـ التشكيك في شرعية مؤسسات المرحلة الانتقالية

ليس في وسع أي مجتمع ديمقراطي أن يستمر طويلاً ما لم يكن يتمتع بشكل من أشكال الشرعية. والشرعية مفهوم يصعب تحديده وقياسه، خصوصا في المجتمعات التسلطية، غير أنه يمكن فهمه بصورة أفضل إذا ما جُزئ إلى ثلاثة مكونات:

الشرعية الجغرافية: وتعني أن الذين يعيشون ضمن نطاق الدولة يقبلون حدودها الإقليمية أو لا يعارضونها إلا عبر الوسائل الدستورية. إذا لم يحس الأفراد والجماعات بشرعية الإطار الجغرافي للدولة فسوف تتعرض العمليات السياسية الديمقراطية للتهديد، وفي الحالات المتطرفة قد يأخذ التهديد شكل حركات انفصالية.

وعندما لا تتوفر للجماعات وسائل ديمقراطية لتحقيق الانفصال، فمن غير المحتمل أن يلتزموا بالعمليات الديمقراطية، ويصبح العنف أمراً محتما تقريباً.

وفي ليبيا، ظهرت دعاوى إرهابية متطرفة ترفض فكرة الدولة، بل ترفض عملية التحول الديمقراطي بمجملها. وبسبب عمليات التهميش التي مارسها النظام السابق، واستمرارها بعد ثورة فبراير، ظهرت دعاوى انفصالية، وإن اتخذت من الدعوة إلى نظام فيدرالي ذريعة لتمرير مقاصدها.

وفي الحالين، ثمة تشكيك صريح أو مضمر في شرعية الإطار الجغرافي للدولة والهوية الوطنية المشتركة.

الشرعية الدستورية: وتشير إلى القبول العام للقواعد التي تحدد تنظيم وتوزيع القوة السياسية والتنافس عليها. ويمثل تأسيس القواعد الدستورية أحد أصعب جوانب عملية الدمقرطة لأن عملية التحول الديمقراطي تفتح المجال لمدى واسع من المصالح المتنوعة والمتعارضة، وكل مجموعة تسعى لمعرفة كيفية تأثير الترتيبات الدستورية الجديدة على مصالحها وضمان حماية هذه المصالح.

ونظراً لسعي الجماعات المختلفة إلى التأثير على شكل الدستور ومحتوياته، فإن المفاوضات والمساومات عادة ما تكون صعبة وشاقة.

وفي ليبيا، ثمة استقطابات واضحة حول شكل الحكم ونظامه، وحسب آخر استطلاع أجراه مركز البحوث والاستشارات بجامعة بنغازي، بلغت نسبة من يفضلون النظام الرئاسي (44.1%) يليه النظام المختلط (34.5%)، بينما تذيل النظام البرلماني (18.9%) قائمة التفضيلات.

من ناحية أخرى، يرى 59.2% أن نظام اللامركزية الإدارية هو الأفضل لليبيا، ويفضل 28.8% النظام المركزي، بينما عبر 10.8% عن تفضيلهم للفيدرالية.

وبسبب الانفلات الأمني في البلاد، وسيطرة ميليشيات وجماعات خارجة عن القانون، لا يستبعد أن يشكك كل خاسر لقضيته، وفق ما يسفر عنه الاستفتاء المرتقب، في شرعية الهيئة التي أنيطت بها مهمة صياغة مشروعه، أو في نزاهة الاستفتاء، وقد يتخذ أي ذريعة أخرى من أجل الحول دون تأثير الترتيبات الدستورية على مصالحه.

الشرعية السياسية: وتشير إلى المدى الذي يعتبر المواطنون وفقه أن لدى السلطات القائمة الحق في تولي السلطة. ويمكن إقرار أن الحكومة تتمتع بشرعية سياسية عندما تعكس نتائج الانتخابات التنافسية تفضيلات الناخبين وفقاً للقواعد والترتيبات الدستورية والمؤسسية.

غير أننا لا نعدم وجود من يشكك في أحقية نظام الحكم القائم في المرحلة الانتقالية في تولي السلطة لمجرد أن حزبه أو عشيرته أو ميلشيته لم يرض على توليه إياها. في زمن الاضطرابات الأمنية لا تكفي تفضيلات الناخبين لتحديد القائمين على إدارة الدولة، وحين تخسر بعض التيارات السياسية عبر صناديق الاقتراع، قد تلجأ إلى صناديق الذخيرة لتذود بها عن مصالحها. وقد بلغ هذا النوع من التشكيك في الشرعية ذروته حين رفض المؤتمر الوطني العام تسليم السلطة لمجلس النواب المنتخب، بما أفضى إليه ذلك من قيام سلطتين على الأرض، واندلاع اشتباكات مسلحة عنيفة.

وعلى هذا النحو، يستبين أن مسألة الشرعية، بمختلف تجلياتها، قد تهدد بإجهاض عملية التحول الديمقراطي، بل بدخول البلاد في نفق قد يودي بها إلى الانضمام إلى قائمة الدول الفاشلة.

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ (وهن المؤسسة العسكرية وعجز الدولة عن السيطرة على الأمن)

***

محمد زاهي المغيربي ـ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة بنغازي

نجيب الحصادي ـ أكاديمي ومترجم ليبي، له العديد من المؤلفات، أستاذ في جامعة بنغازي

_____________

المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات

مواد ذات علاقة