بقلم مختار غميض

لا شك أنّ لكل حرب هدفا سياسيا من خوضها وإلا تصبح عملا عبثيا، ومع الجمود العسكري الحالي وتوقف القتال على تخوم مدينة سرت مفتاح الهلال النفطي، اندفعت روسيا بمرتزقتها بقوة نحو المنشآت النفطية بات يعزز فرضية لعبها على ورقة النفط، لكن قوات الوفاق الوطني تبدو من جانبها عاقدة العزم على استكمال بسط نفوذها على كامل التراب الليبي.

الجزء الأول

الأمر الذي يخشاه الرئيس المصري الذي بادر بإطلاق مصالحة بين الجنرال المتمرد خليفة حفتر ورئيس برلمانه في طبرق، بعد سقوط ورقة حفتر عسكريا وسياسيا هو الأمر الذي دعمته روسيا عبر الضغط لقبول بعقيلة صالح الذي دعا إلى تكوين مجلس رئاسي جديد على أساس فيديرالي لكن حكومة الوفاق ظلت ترفض الحوار الأممي العقيم ريثما تجد صدى جديا لبديل شرقي جديد مما قد ينذر بمعركة باردة طويلة الأمد يتجاذبها الجانب الروسي والتركي مما قد يوحي بسورنة المشهد الليبي إذا لم يلتقط دقة المرحلة التاريخية.

مقدّمة:

توحي عملية استهداف قاعدة الوطية الجوية لأول مرة بعد استرجاعها من قوات اللواء المتمرد خليفة حفتر وعدم تبني أي طرف لعملية القصف باستثناء المستشار السابق لولي عهد أبوظبي الذي لمح في تغريدة ثم قام بفسخها إلى دولته الإمارات.

يوحي كل ذلك بدخول ليبيا مرحلة حرب عسكرية باردة وطاحنة طويلة الأمد رغم توقف القتال حاليا على أبواب الهلال النفطي التي أعلنتها روسيا منطقة حمراء على لسان جارتها مصر ثم أدخلت فيها على يد قوات حفتر مرتزقتها “الفاغنر”.

لكن زيارة وزير الدفاع التركي الأخيرة مع رئيس أركانه إلى طرابلس ومدينة مصراته يشي بعزم تركيا على المضي قدما في مساعدة الجانب المعترف به دوليا حيث يريد، وما قصف قاعدة الجفرة “الروسية” المحتلة بعد ساعات فقط على قصف الوطية إلا دليلا واضحا على مدى دخول ليبيا معركة كسر عظام.

وهذا مرتهن في قادم الأيام على مدى انخراط روسيا في دعم الجانب المصري الذي يبدو أنه سيكون وقود المعركة مع إصرار قوات بركان الغضب، الجناح العسكري للوفاق على استمرار التحشيد استباقا لكسر الخط الأحمر السيساوي حول سرت والجفرة.

أولا: انقلاب المواقف الدولية

أ – الانقلاب الفرنسي والأممي

بعد ست سنوات من الدعم الفرنسي لجنرال برقة المتمرد خليفة حفتر، رغم وجود الأدلة والبراهين التي تثبت تورّط فرنسا واعتراف حفتر نفسه هو سيّد الأدلّة.

ويبدو أن فرنسا لم تعد تتحمل حماقات وجرائم بتلك التي جرى ويجري الكشف عنها في المقابر الجماعية بترهونة التي ورّطت الداعمين في بشاعة الجرائم ضد الإنسانية والتي ولن يجدوا لها تبريرا.

فها هي فرنسا تتنصل من حفتر وتصب غضبها على تركيا آخر الدول التي تدخلت وليس سرا في الشأن الليبي.

ويأتي انقلاب فرنسا هذا من أعلى هرم في السلطة حيث أعلن الرئيس إمانويل ماكرون تخليه عن دعم حفتر عسكريا وهي التي اعترفت سابقا به كقائد عسكري شرعي يجب الحوار معه، ويأتي الموقف ضمن حشر حفتر في زواية ضيقة بعد تخلي جميع الداعمين الغربيين له، ومن أجل تخفيف حدة الصراع داخل حلف شمال الأطلسي مع تركيا ثاني أكبر قوة عسكرية في الحلف إلى جانب القوة الأولى، الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد تخلت روسيا عن حفتر ذراعها القوي الذي وقّعت معه اتفاقيات قبل سنوات في بارجتها البحرية قبالة بنغازي، فها هي تتخلى عنه في مفاوضاتها بينما تتمسك برئيس برلمان طبرق عقيلة صالح وتُروّج له كرجل للسلام خلال لقائه الأسبوع الماضي مع وزير الخارجية لافروف في موسكو، وقد تماهى موقفها مع مصر في تخليهما عن حفتر وتنسيق المواقف للإبقاء على عقيلة صالح.

هذا الأمر بدا منذ فترة من ناحيتين اثنتين، من خلال صراع خفي بين حفتر وصالح وهذا الصراع صراع داخلي بعد انقلاب حفتر على اتفاق الصخيرات ودعوته للتفويض، فالخلاف بينهما هو خلاف فروع، فعقيلة هو من نصّب حفتر ووفّر له الغطاء السياسي والشرعي، وكلاهما يتحرك من مصر والإمارات، ثم أيضا من خلال غياب حفتر نهائيا عن ساحة الأحداث في الشرق، باستثناء ظهور بدا مجردا فيه من كل رتب ونياشين عسكرية.

لكن الأغرب والأكثر تقلبا من بين هذه المواقف هو ما صرح به المبعوث الأممي لدى ليبيا غسان سلامة المستقيل من منصبه لدواع صحية، الذي أرجع حرفيا هجوم حفتر على طرابلس إلى الدعم العسكري الرباعي المصري الإماراتي الفرنسي والروسي، والذي قال إنه أدى إلى توقف عملية السلام، ولم يكتف بذلك بل طالب حكومة الوفاق بمواجة حفتر بقوة فولاذية بحكم شرعيتها الدولية.

لا شك أن هذا الانقلاب في موقف الوسيط الدولي والذي وصفه بالانزعاج من الهجوم الذي شنه حفتر بتعليمات سعودية، ونذكر جميعا زيارة عقيلة صالح للرياض وتقبيله رأس الملك سلمان ودعم الحرب ماليًّا.

لكن لماذا لم يصارح سلامة الليبيين حينها، ربما نصدقه أكثر لو خرج وقتئذ وأعلنها صراحة للعالم، وبالتالي هذا نوع من التواطئ الذي يشترك فيه مع المجلس الرئاسي الذي لم يعلنها في حينها أيضا لإحراجه.

إن شخصية سلامة تبدو براغماتية كسابقيه ويُحسن ذلك الدور المنفعي، لكن في اتهامه لأعضاء بمجلس الأمن، بأنهم طعنوه في الظهر يريد إخلاء ذمته من الجرائم المرتكبة التي أرهبت دول العالم وانقلبت على حفتر بل ووافقت الأمم المتحدة على التحقيق فيها.

ولا يمكن تصور أن سلامة يتهم فرنسا وهو أحد مواطنيها، أو الإمارات الراغبة في توظيفه بمؤسساتها.

لذلك يبدو أن المنحى الإجرامي لمخلفات العدوان وراء نكران الدعم والانسحاب من الاصطفاف مع شخصية حفتر، ومن هنا جاء موقف فرنسا بانسحابها من عملية “الناتو” في المتوسط.

هذا الانسحاب يقابله مواصلة دعم فرنسا لروسيا بشكل خفيّ لكنه جليّ للوقوف وراء مصالحها، في ما يتصل بالتدخل العسكري في النزاع الليبي، فبعد اجتماع ماكرون و بوتين الذي جرى بتقنية الفيديو أواخر الشهر المنقضي، دخل مرتزقة “فاغنر” الروس أكبر الحقول النفطية بالجنوب الليبي.

وهذا يفسّره قول ماكرون إن بلاده تتعاون مع روسيا وتخاطر بأمن حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وأمريكا، في نظرة تحفظ على إقليم فزّان الذي تراه إرثها التاريخي وخزّان شركاتها النفطي، و هو ما عرضّ ماكرون لحملة انتقادات داخلية، اشتعلت بعد خسارته في الانتخابات المحليّة بسبب فشل إصلاحاته و أزمة الاقتصاد ما بعد كورونا.

لذلك عمليا لا يمكن الأخذ بتصريحات ماكرون المعلنة على محمل الجد فمراوغة بلاده ليست بالجديدة، وهو يحاول حاليا الهروب إلى الأمام.

وبفعلها هذا، يبدو أن فرنسا جلدت ذاتها بذاتها، بعد أن رفض “الناتو” طلبها عقد اجتماع طارئ لمناقشة الدور التركي المساند لشرعية الوفاق، على إثر انتقال المعارك إلى محور سرت الجفرة وضم كل المنطقة الغربية.

وأمام تضخم دور مرتزقة “فاغنر” الروس وانكشاف قيادتهم للعمليات العسكرية في تحالف مع فرنسا، جعلها تغرّد وحدها خارج سرب “الناتو” وكنتيجة لهذا تزايد النفوذ التركي في الحلف واستفرد بالموقف في الملف الليبي.

هذا الكلام تؤكده الوقائع على الميدان، ففي مارس الماضي اقتربت من شواطئ مصراته فرقاطة فرنسية للتجسس على غرفة العلمليات العسكرية بقاعدة مصراته الجوية والتشويش على منظوماتها، ومع عدم الاستجابة للتحذيرات تم ملاحقتها الى المياه الإقليمية، ثم مؤخرا همت بارجة تركية بإطلاق النار على فرقاطة فرنسية فعادت أدراجها وسط زوبعة سياسية كبيرة بين فرنسا وتركيا.

هذا ناهيك عن تراجع الدور اليوناني والإيطالي الذي يعد أقل حدة من أي دور، وبالتالي تنصل الكل من حفتر دوليا قد يوحي بانتهائه مطاردا جنائيا في أروقة المحاكم الدولية.

ب – الضغط التركي

تسعى تركيا في نطاق تطبيق الاتفاقية البحرية مع طرابلس الى تنفيذ وعودها كاملة حتى تكون الاتفاقية فاعلة، لأن حدود تركيا البحرية تشمل السواحل حتىّ درنة شرقا، ولهذا لن تكتفي بالحدود البحرية الحالية، وهذا جعل روسيا، الجانب القوي الوحيد المقابل في ليبيا، تتمسك بقوة بالملف الليبي نيابة عن بقية الحلفاء العرب، وفي وضع المساومة حاليا خصوصا قبل الانتخابات المنتظرة بأمريكا نوفمبر القادم مع تغير الموقف الأمريكي لصالح الوفاق.

لذلك ستنسحب موسكو عاجلا أم آجلا ولن تغوص ساقها في الوحل الليبي بالشكل الذي تورطت فيه بسوريا، ومعسكر حفتر يعلم جيدا مطامع روسيا في النفط وكذلك مصر، ومطامع الإمارات في تنمية موانئ ليبيا وبالتالي ستكون برقة الخاسر الأكبر ولن تقبل بأجندات قد تؤدي نحو الانقسام.

ونظرا للأولوية التي أصبحت تحتلها ليبيا في السياسة التركية منذ عام، احتل الملف صدارة اهتمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أول زيارة خارجية له بعد أزمة كورونا، حيث أكد من العاصمة القطرية ربط زيارته للدوحة بزيارة وزير دفاعه وزيارة رئيس الأركان البحرية المتتاليتين إلى العاصمة الليبية.

وتدرك موسكو جيّدا جدية أنقرة في الذهاب إلى الأمام بعيدا، كما تعلم أنها بقيت وحيدة في مواجهة أوروبا وأمريكا، أمريكا التي ستضغط بكل ثقلها لعودة النفط الليبي للتدفق وتحييده عن المعارك السياسية في ظل تدهور أسعار البترول دوليا وفي خضم معركة كسر العظام بشأن سعر النفط المتدخلة فيه أمريكا.

بناء على ما سبق، فإن الرئاسة التركية لم تُخف تهديدها ولا دعمها الصريح والمعلن فوق الطاولة، للجانب الشرعي ووصلت حد إعلانها بقصف قاعدة الجفرة المليئة بمرتزقة شركة فاغنر، التي خرجت من ترهونة وبني وليد بحجة إعادة انتشارها، وبالتالي فهي هدف عسكري لقوات الوفاق وسلاح الجو المدعوم من الأتراك.

ولا يمكن قراءة قصف القاعدة مؤخرا والذي أودى بحياة بعض المرتزقة الروس خارج دائرة الرد التركي على قصف قاعدة الوطية ومنظومة “هوك” للدفاع التركية داخلها، لكن الجانبان اتبعا سياسة الحرب الباردة، مع إرجاع الفعل ورد الفعل إلى المجهول تفاديا لأي حرب مباشرة.

ومعلوم أن غرف العمليات العسكرية في العاصمة طرابلس ومدينة مصراته تحظى بدعم استخباراتي وتعاون قوي وناجع، وإنهاء الدور التركي هناك أمر محظور بالنسبة إلى أمريكا حاليا، واجتماع قادة أفريكوم الشهير بقادة الداخلية في طرابلس وقادة عسكريين في الغرب الليبي دليل دامغ بالعناية الأمريكية المناصرة لطرابلس.

***

مختار غميض (صحفي تونسي)

_____________

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

مواد ذات علاقة