بقلم مهاجر

خلال تصفحي لبعض الأرشيفات في صفحات التدوين والتواصل الاجتماعي وقعت عيني على مدونة جريئة تطرح جملة من الأفكار والتعليقات الجديرة بالتمعن والتدبر ولأهمية ماتطرحه وعلاقة ذلك بما آلت إليه الأمور منذ 2014، اخترت التدوينات التالية من مدونة الكاتب شكري الميدي أجي (بنغازي):

الأولى: معارك بلا فرسان

كتاب من المدرسة إلى المعركة، للمؤلف المهندس عبد الله بركة، يتحدث عن صبي ليبي من الجنوب، يجد نفسه وقد أُخذ من المدرسة إلى قلب حرب طاحنة، يقودها القذافي بأذرع متعددة كان خليفة حفتر الذائع الصيت، يمثل احدى أذرعها، لسبب ما لا يمكن تجاهل تذكر الحرب الليبية التشادية، حين يتم ذكر اسم حفتر.

تلك الحرب ساهمت بولادة كثير من الأسماء وختمت نفسها على جلودهم، كما يختم بعض الفنانين أسمائهم في عصورهم. خليفة حفتر، بصم اسمه في عقد الثمانيات، حتى إنه أصبح بشكل ما أسطورة متعلقة بتلك الحرب البعيدة، التي ولد صبيان الذين أشعلوا الثورة، بعدها.

هذا ما تذكرته على الفور، وأنا أسمع أخبار القصف من فوق سماء بنغازي، قبل أن تنقسم الآراء خول ما وقع في المدينة، والتي أطلق عليها تسمية: كرامة ليبيا.

إنما كنت متأكداً بأن ما حدث في جمعة إنقاذ بنغازي أكثر قوة ودلالة وارتباطاً بالثورة، التي وقف ورائها مؤسسات المجتمع المدني. الشرعية الحقيقية هي للشعب، تلك القرارات الخاطئة التي تنال الحظوة، لا تعني في الحقيقة بأنها جيدة وإن لا حل آخر، بل تعني بالفعل بأن مستوى الإبهار هو ما يعتمده رجال الجيش القديم، بذات السطوة القديمة المنبعثة من فترة الثمانينات، مستفيدة من الصيت النابع من تلك الحرب، حتى الثورة في بداياتها استفادت من الحرب التشادية كوسيلة للتعبئة النفسية، نتيجة لذلك ذهب الكثير من الضحايا لم يأسف لهم أحد، كما لا يمكن تجاهل أحداث الكفرة والتي استفادت من تلك الحروب اللعينة فوق الأرض التشادية على بعد الآلاف الكيلومترات من ليبيا عبر الصحراء، في تلك الحرب ولد خليفة حفتر، وولد معه الإبهار.

ولادته الطبيعة كانت سنة 1943 بمدينة اجدابيا، درس فيها مرحلتي الابتدائية والإعدادية ثم أكمل درسته الثانوية في درنة – التي يسيطر عليها أعداءه الآن والذين قد يكونون أبناء رفاقه من تلك المرحلة – حين تخرج من الكلية الحربية سنة 1966 التحق إلى الجيش الليبي.

نهايات سنة 2011 كنت أتجول عبر مكتبات بنغازي، حين وقع بصري على كتيب صغير يحمل اسم العقيد ركن خليفة أبو القاسم حفتر بعنوان: رؤية سياسية لمسار التغيير بالقوة.

خليفة حفتر رؤية سيساسية لمسار التغيير بالقوة قمت باقتنائه ووضعه في مكتبتي كان صغيراً من 32 صفحة لم أستطع مطلقاً أن أقرأ ثلاث صفحات منه، تركته جانباً، ثم حدث أن إعلن بيانه الأول، فهرعت مسرعاً بفتح كتابه، هذه المرة كنت أغصب نفسي لقراءة أفكار شخص عسكري، كما توقعت لم أجد سوى إدعاءات هائلة، يخجل من كتابتها هتلر نفسه، فهي غير واقعية وتتحدث على الدوام عن معركة لن تقوم، وانقلاب لن يحدث أو كما يسميه في بعض الفقرات بالتحول التاريخي. الكتيب كان قد صدر في مارس 1995 بحسب التاريخ المذيل في المقدمة بالولايات المتحدة الأمريكية – فرجينيا، متعهداً بمواصلة الكفاح لأجل الشعب لتحقيق الأهداف الوطنية: النصر.

لم يحدث شيء حتى سنة 2011 حين وقعت الثورة وخرج صبيان ولدوا بعد الحروب التشادية وبعد عصر حفتر الذهبي، ليهاجموا كتائب كان ليكون مدافعاً عنها لولا هزيمته في التشاد، وتنكر القذافي له بشكل سافر تناقل قصته الأسطورية المواطنين، وقد صدر الكتاب في طبعته الثانية بالذات في نفس السنة ليعلن عن ميلاده الثالث ربما الحقيقي والأكثر تأثيراً للرجل، إنما هذا الميلاد نفسه كان عسيراً، فالقوى التي واجهته كانت أكثر تنظيماً كانت ترى نفسها، الوحيدة التي قاتلت القذافي بالفعل، عند هذا الحد ومنذ بداية الثورة، كانت القوتين المتواجهتين في الجبهات تنذر عن انقسام شرس، خسره في النهاية المعسكر الذي يقف فيه حفتر، الذي توارى عن الأنظار لفترة طويلة، كان يظهر على مراحل معينة أحياناً ظهور عابر، كما تصدر ذات مرة الأخبار لأنه تعرض لعملية اغتيال في طرابلس، إنما ظهوره الأكثر درامية في 14 فبراير حين أعلن بنبرة هادئة تليق بمذيع متمرس باسم الجيش الوطني الليبي عن تحرك عسكري سمي لاحقاً بالانقلاب ثم سرعان ما تحول لنوع من السخرية الكبيرة عبر القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي.

لم يعرف أحد بأن الفكر العسكري الذي يمثله خليفة حفتر ونظرته الشخصية تجاه المعضلة الليبية وفكرته حول استخدام القوة، تمثل بالنسبة إليه حلاً لكل المشاكل، وإن القوة جزء كبير من خطته التي وضعها نصب عينيه في مواجهة النظام الفردي الشمولي الذي كان يمثله القذافي، كما إن الأيام أثبتت بأنه يحمل نفس الحل تجاه القوى الأخرى التي بدأ يسميها بالإرهاب – كلمة تحمل الكثير من الظلال لا ينازعها في التاريخ سوى كلمة البرابرة.

كان يقال على سبيل النكتة الظلامية، حين كان حفتر يقاتل في التشاد باستخدام إستراتيجية الأرض المحروقة على أعتاب كل قرية تشادية، بأن المقاتلين التشاديين، اعتقدوا بأن تسمية حفتر التي تذكر أمام كل قرية محروقة هو نوع ما من أسلحة القذافي، وكم كانت دهشتهم عظيمة حين عرفوا بأنه محض رجل، وقد ألقوا القبض عليه أسيراً لديهم.

حفتر كما يصفه البعض في هذه الأيام العسكرية بأنه رجل لا يمتلك إستراتيجية عسكرية.

***

كتاب من المدرسة إلى المعركة، يتحدث بشكل أساسي عن اخذ الصغار إلى الحروب كما يضع صورة بصرية هائلة عن تلك الحروب التي وقعت خلال الثمانينات والتي لا تزال تطارد كوابيس الشعب الليبي على نحو مرضي.

كان لا بد لشخص من تلك الحروب أن يستفيد من سلطته، لا بد أن تنتهي فصول تلك الحروب، حتى وإن قام احد قادتها بتنفيذ نفس السياسات فوق الأرض الليبية، لنشهد كيف إن الفكر العسكري يرتد على نحو صاعق، ففي نظرة يمكنني أن أؤكد هذه الفكرة، الأجنحة المقاتلة التي اجتمعت ذات مرة تحت لواء القذافي، تقاتل الآن لكي تجعل من نفسها مسيطرة على الحياة السياسية والعسكرية في البلاد متخذين من الجانب الأمني وسيلة، دون أهمية تُذكر لشيء وطني برغم الإدعاء الكبير الذي يصاحب هذه التحركات العشوائية.

في سبيل أن تصل ستشعل حروب كثيرة ليدعوا كونهم فرسان هذه البلاد المنكوبة منذ قرون والتي يبحثون عن كرامتها، فيما لم يستطيعوا أن يتعدوا قتل الأطفال بإستخدامهم في الحروب.

***

الثانية: كرامة ليبيا التي لا تعلم عنها الدولة شيئاً

img_girls-ly1392383126_537 العمليات الحربية التي حدثت في بنغازي، قال أصحاب المناصب العليا، بأنهم لا يمتلكون علماً بها، وإنها تحدث بإمرة خليفة حفتر – قائد القوات البرية الليبية واللواء في الجيش – وإنها عمليات تستهدف معسكرات محسوبة على أنصار الشريعة أو كما سميت مليشيات راف الله السحاتي.

ظهر خليفة حفتر في احدى المقاطع الفيديو، أولاً بكامل لباسه العسكري، ثم ظهر مرة أخرى بلباسه المدني وهو يطلق من سلاح كلاشينكوف في اتجاه منطقة مفتوحة، فيما ظلت الطائرات الحربية تحلق طوال اليوم فوق سماء بنغازي، دون أن يتم فهم أبعاد هذه العملية بشكل كامل. فليست هناك تصريحات صحفية، إنما فقط مقاطع وتعليقات أناس من خارج الحلقة العسكرية التي تقود العمليات التي سميت بـ كرامة ليبيا.

في بنغازي تبدو الأراء الشعبية أكثر انقساماً حول الاشتباكات التي تمت في ضواحي المدينة. البعض يرى بأنه صار لزاماً مهاجمة هذه الجماعات التي غدت أشبه بالعصابات داخل المدينة، فيما يرى البعض الآخر إن الكتائب التي يسمونها بالعصابات كانت جزء من القوات الثورية التي دافعت عن بنغازي إبان هجوم رتل القذافي، وأن يتم مهاجمتها بهذا الشكل هو هجوم سافر على الثورة نفسها، ويبد الأمر محتدماً، حتى إن البعض يؤكدون وجود انقسام داخل المدينة الواحدة. الشائعات تتحدث عن إطلاق النار على الطائرات المحلقة من فوق بعض الأحياء السكنية تضامناً مع قوات راف الله السحاتي.

الصاعقة بدورها أعلنت بأن العلميات العسكرية لا تمت لها بصلة، وإنها تنعزل بنفسها عنها، مما ترك علامة استفهام كبير حولها، لأن الدولة الليبية المحسوبة التي كان يتوقع بأنها تمتلك خطة لحل مشكلة الإرهاب في المناطق الشرقية وبعض المناطق الغربية في البلاد، تعلن بوضوح بأنها لا تشارك في العمليات التي تعلن بأنها تحارب الإرهاب، لتوحي بأن العمليات الجارية، لا تفرق مطلقاً عن أفعال المليشيات وإنها أقرب لتمرد من قبل رجل أثار جدل قبل أشهر بإعلان انقلاب لم يتحقق، هو الآن يقود عمليات حربية بدعم القوات الدفاع الجوي، من ثلاث مناطق: قاعدة بنينا الجوية، قاعدة الأبرق، قاعدة طبرق الجوية

الطائرات العمودية والحربية تقصف عدة معسكرات من بينها: معسكر 17 فبراير، معسكر تابع لكتيبة راف السحاتي. وقد سمعت أطلاقات نارية ودوي انفجارات في جهات متفرقة من المدينة. في نهايات العمليات ليوم واحد، يظهر تفاؤل الشعب بالعمليات العسكرية التي وصفت بأنها واسعة النطاق. إنما هناك عدة نقاط ملاحظة في كل ما جرى:

1 – إنها عمليات جرت بعيداً عن الدولة، على الأقل رسمياً، مع إنها تحمل تسمية الجيش الوطني، استخدمت فيها الطائرات وشعارات الدولة.

2 – الدولة بإعلانها بأنها غير معنية بالأحداث الجارية، وإعلان الصاعقة بأنها غير معنية بهذه العمليات، تظهر مدى الانقسام المتسع في بنية المسماة بالجيش الوطني، فيما الاعتقاد كان واضحاً بأن هناك جيش مهمش وجيش موازي مختصر في الدروع، ليتضح الآن انقسام من نوع آخر ضمن الجيش المهمش نفسه.

3 – إن اللواء حفتر كان محسوباً لفترة ما على قوات برقة – المكتب الفيدرالي، دون أن يعرف أحد علاقة هذه التحركات بالمكتب الفيدرالي الليبي.

4 – تجاهل حفتر لبنية أنصار الشريعة وكتيبة راف الله السحاتي المكونة من أبناء بنغازي الهادفين لرواتب الشهرية، دون أن يكونوا من أصحاب الفكر التكفيري.

بالرغم من كل الشيء، العمليات تمت، مثل تلك التي سبقت، إنها لا تعلن جديد، لا يزال أمراء الكتائب التي تم استهدافها، يتحدثون بهدوء، لا يزالون يمتلكون مناصب مهمة في الدولة، لا يزال الشارع منقسماً، لا تزال الفكرة الثورية مكونة من نظرياتهم الخاصة، كما إنهم يمتلكون قوة لا يستهان بها، حتى إن أفعال اللواء خليفة حفتر لا تبدو ذات تأثير في المشهد إلا إنها منحت الإعلام خبراً جديداً، إن التفاؤل الظاهر ليس سوى جرعة صغيرة جاءت كما يبدو باتفاق مسبق على تصفية بعض المعسكرات، التي تم إبعادها منذ مدة عن جسم بعض التحركات التي يصفها البعض بالإرهابية، ففي الوقت الذي كانت فيه الطائرات تقصف تلك المعسكرات وقعت عملية اغتيال نموذجية في احدى شوارع بنغازي، في حين كانت نتائج العمليات قرابة عشرة قتلى، ومئات الجرحى تم نقلهم إلى مستشفيات مختلفة، هذا ميدانياً.

أما فيما يتعلق بالمؤسسات الدولة، فإنها أثبتت فشلها مرة أخرى، لم تستطع أن تعلن موقفها بوضوح من هذه العلميات في حين إن كامل معسكراتها، مناطقها العسكرية، قواعدها، طائراتها، بل حتى شعارها على السيارات ثم استخدام كل شيء متعلق بالدولة، إنما الدولة نفسها، تعلن بأنها لا تمتلك صلة بالأمر.

نتساءل نحن بهدوء: كم دولة داخل الدولة الليبية؟ فالدولة الليبية أعلنت بأنها لا تعلم شيئاً عن كل الموضوع. إنه شيء يعني بأن حفتر ماضي في فكرته الانقلابية، وإن الدولة حذرة منه، ولا أحد يعلم الموقف القادم منها تجاه مجموعة الجديدة المسماة: الجيش الوطني.

***

ثالثا: أصبع في الأنف

che-guevara_00427261 إن المثقفين، شرحوا بكل وضوح أنهم، يعادون العقلية الجهادية، إنما يمجدون العقلية العسكرية، ويعتقدون بوضوح شديد إن المدنية والحراك الشعبي أمر ممكن، لكنهم يقدمون على ما يوضح بأنهم لا يؤمنون بها كفعل ممكن.

***

ذات مرة كتب أحد منظري الغرب بأن الثورات في العالم الثالث تتخذ شكل حروب العصابات، هدفها الأساسي هو الوصول إلى السلطة.

إن فكرة الوطن في ذهن العسكري مختلفة تماماً عما في ذهن المثقف، الذي يقفز من كرسيه داعماً حاصد روحه، فقط لأنه لا يؤمن بأن الشعوب يمكنها أن تصبح عاقلة.

1 – حفتر فشل في مهمته، إلا أن أراد حرباً شوارعية طويلة الأمد وهو ما يحتاجه الفكر الجهادي ليواصل نموه في الأحياء، بعض أعضاء المؤتمر الوطني ذوي الفكر الجهادي، وجدوا فرصة لخوض العملية إلى مراحله متقدمة، بعد الاختناق الذي كانوا فيه.

2 – في حين إن الحراك الشعبي ضاع وراء مغامرة خليفة حفتر، وحتى وإن تواصل الأمر فإن لن يعدوا إلا أن يكون مجرد حركة انقلابية، فآخر من يعترف بأنه ديكتاتوري وانقلابي هو الديكتاتوري والانقلابي نفسه.

3 – إن ما يحفظ بقاء المؤتمر الوطني هو كونه شرعياً، بتأكيد من القضاء الأعلى نفسه، هذه الشرعية وصلتها من قبل الشعب الليبي، ولا ينتزعها إلا الشعب، وهو ما يضرب به التحرك العسكري عرض الحائط، بتصريحات متعصبة لا تحمل مسؤولية القرار، وفي سبيله تم استخدام الطائرات للقصف.

4 – التحجيم الفكري المبكر كون من يظهر بأنه ضد الحراك، واعتباره منظماً للجماعات الجهادية، الإرهابية المهدورة الدم، لدليل عن ضيق أفق الحراك العسكري، وأن ينضم إليه مثقفي البلاد، يكشف مدى التخبط الفكري الذي تعانيه البلاد.

5 – في كتابه ورؤيته السياسية يعلن خليفة حفتر بأن حرية الرأي والتعبير يجب أن تقنن وهذا ما لا يتفق معه – طبيعياً – أي مثقف حريص على حرية التعبير، الذي هو في أغلب الدول الربيع المكسب الوحيد.

مع ذلك حدث أن اتضح الأفق المتعصب لدى أطراف النزاع، فيما يتعلق بالفكر الجهادي، الجميع يدرك مدى تطرفه وتعصبه، بحيث لم يعد أحداً يستغرب من ذلك التعصب الواضح والاستعداد المتحفز لاستخدام السلاح للبقاء، في حكم يرون بأنهم حازوه بحد السلاح، كما تشبههم المجموعات المسلحة التي تصطف وراء حفتر في هذه الفترة.

إنما ما يثير الحزن والاحباط هو موقف المستفيدين من حرية الرأي والتعبير عنه، حين يكونون على استعداد للتخلي عنه لقاء وهم يمنحه لهم عسكري آخر بعد أقل من أربع سنوات من إسقاط العقيد الليبي.

______________

المصدر: مدونات ليبية

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *