نظرة مناطقية للمسألة الليبية المعاصرة

د. ميلاد مفتاح الحراثي

الدولة الليبية مهدّدةٌ الآن بمشروعين يُكمّلان بعضهما البعض:

ـ مشروع التدويل الأميركي والغربي عموماً للازمة والصراع الليبي،

ـ ومشروع استمرار الصراع في اقليم الغاز والنفط لشرق المتوسط.

وما قامت به جماعات التطرّف الديني العنفي في بعض البلدان المجاورة للعمق الليبي خلال السنوات الماضية ساهم بخدمة المشروعين معاً في ظلّ غياب المشاريع الوطنية الليبية والعربية.

وإذا لم يستطع الليبيون وقف خطايا حروبهم وصراعاتهم الداخلية، فليحسنوا على الأقل توصيف هذه الصراعات حتّى لا يخدموا عدوّهم الحقيقي وأفرعه الدولية والاقليمية والمحلّية!”

ولعلّ أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء أثنية، أو سياسية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات وخلافات هي بواقعها وأهدافها سياسية محضة، وهذا ما يجري عادةً في الحروب الأهلية التي تُسخّر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية.

فالفاعل الآن في الازمة الليبية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التي قد تتباين مصالحها، لكنّها تتّفق على هدف جعل الازمة والصراع الداخلي يأخذ أبعاداً سياسية وأثنية بحكم الارتباط الخارجي بهذه الجهة أو تلك.

فصحيحٌ أنّ هناك خلافاتٍ عديدة بين أطراف الصراع الليبي، ومن جهة اخرى بين مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية، لكن ما المصلحة الليبية من توصيف هذه الخلافات بأسماء سياسية وأثنية ومناطيقية أو انفصالية؟

إنّ المخاطر القائمة حالياً هي ليست على أتباع هذا المذهب أو ذاك المذهب فقط، بل هي أخطار محدقة بحقّ ليبيا كلّها، بما فيها شعوب دول الجوار الليبي. فضحايا الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية والاجتماعية والعنف المسلّح الجاري الآن في ليبيا، من أيِّ جهةٍ كان مصدر هذا العنف، هم ينتمون لأوطان ومناطق وأديان ومذاهب مختلفة.

إنّ المرتزقة القادمين الي مناطق النزاع الليبي، وعلى مسمع من تلك الجهات العربية والدولية مثلاً، انتعشوا واستفادوا من هذه التوصيفات لصراعات سياسية محلّية أو إقليمية، حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً، ولو عن غير قصد، مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى عدوّهم الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى، ممّا ساهم في إعطاء الأعذار لوجود المرتزقة ولممارساتهم نيابة عن تلك الجهات الاقليمية والدولية.

إنّ الأحاديث والممارسات السياسية الخاطئة والمذهبية والاثنية تزيد الشروخ الوطنية، ولا تحقق المطالب السياسية والاجتماعية لليبيين، كما لا تبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، ترفدها بمزيدٍ من المؤيّدين.

فالحراك الوطني من أجل الإصلاح والتغيير والاستقرار ثمّ المواجهة مع جماعات التطرّف والارهاب العنفي يحتاجان إلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني الليبي.

إنّ أبرز التحدّيات التي تواجه أي وطن أو أمَّة تتمحور حول مسألة الاستقلال والسيادة والحرّية، سواء أكانت حرّية الوطن أو حرّية المواطن من الاستبداد الخارجي والدّاخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية العامّة، فإنَّ أساس المشكلة في الواقع الليبي الراهن هو غياب الاتفاق على مفهوم الوطن الليبي، وعلى تعريف المواطنة الليبية.

ولعلّ ما حدث ويحدث في عدّة دول عربية من صراعاتٍ على الوطن، ومن انقساماتٍ حادّة بين المواطنين، لأمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة الآن في المجتمع العربي الليبي.

أمّا التدخلات الخارجية في أيّ بلد من العالم ليس ناجماً عن قوة المتدخلين الخارجيين وجبروتهم فقط، بل عن ضعفٍ أيضاً في جسم الوطن غير المتماسك بنيوياً الذي يخضع للمتُدخل واملاءاته، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح القابلية للاستعمار أو الاحتلال او قبول التبعية. وبالتالي، فإنَّ كلاً من العنصريْن، قوّة المُتدخل وضعف الوطن، يؤدّيان إلى تقوية الآخر.

لذلك نجد أنَّ حال الضعف الوطني الليبي المتراكم منذ عشر سنوات هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق أولاً على مفهوم الهوية والولاء والانتماء، وهي هنا مشكلة تعريف الوطن لدي عموم الليبيين، بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية والايطالية، وقيام وطن ضعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها مفهوم المواطنة، وساد في معظمها أوضاع قبليّة ومناطيقية، فامتزجت التجزئة داخل الوطن الواحد مع الانقسامات الداخليّة في الوطن الواحد.

حبّذا لو تكون هناك مراجعات ليبية وطنية لتجارب معاصرة في العقود الماضية، كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطرافٍ أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود.

الاطراف الاقليمية والدولية هي التي تحصد الآن نتائج الصراعات الليبية /الليبية، والتي انحدرت أكثر نحو مستنقع المناطيقية والانفصالية والسياسية.

فالليبيون الآن مصيرهمٍ مجهول حيث تشهد ليبيا تكالب من جديد ما شهدته منذ خروج الاستعمار الايطالي والتركي منها، ومحاولة اعادة رسم خريطتها من مراهنات على الخارج، بينما الليبيون مشغولون بأنفسهم وبخلافاتهم.

الفتن الداخلية والاكراهات الوطنية الجارية في أكثر من منطقة ليبية، هي حلقة متصلة بسلسلة الصراع الاقليمي والدولي على مدار العشر سنوات.

فلم يكن ممكناً قبل عشر سنواتٍ من الزمن تنفيذ خارطة الاوضاع الحالية للدولة الليبية دون تقطيع للجسم الليبي وللأرض الليبية، حيث تزامنت الاطراف الاقليمية والدولية والتي أوجدت كياناتٍ متصارعة في الشرق والغرب والجنوب، وضامنة لمصالحها غير المعرفة، ومسهّلة لاستمرار حدة الصراع في ليبيا.

فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني الليبي من الخارج وعودة الدولة الليبية الموحدة.

الفتن الداخلية والاكراهات الوطنية الجارية في أكثر من منطقة ليبية، هي حلقة متصلة بسلسلة الصراع الاقليمي والدولي على مدار العشر سنوات”

إنّ تراجع الهُويّة الليبية المشتركة أدّى إلى تفكّك مفهوم الهُويّة الوطنية الليبية، وإلى طغيان التسميات السياسية والمذهبية والاثنية والمناطقية على المجتمع الليبي، ومن ثمّ حدثت حالات الانفجار الداخلي في أكثر من منطقة ليبية، لا لمجرّد أساس لبناء مستقبل ليبي إذ عندما تضعف الهُويّة بمعيار الانتماء والولاء، فإنّ بدائلها ليست هُويّة وطنية موحّدة لليبيين، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية وتؤدّي إلى تدويل ليبيا كلّها.

وإذا لم يستطع الليبيون وقف خطايا حروبهم وصراعاتهم الداخلية، فليحسنوا على الأقل توصيف هذه

الصراعات حتّى لا يخدموا عدوّهم الحقيقي وأفرعه الدولية والاقليمية والمحلّية!

________________

مواد ذات علاقة