فوجئ الكثيرون، من الليبيين وغيرهم، بما جاء في خطاب ارتجله مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي الذي قاد ثورة فبراير 2011 ضد نظام القذافي، في الاحتفال الذي أقيم في 23 أكتوبر 2011 بمناسبة تحرير ليبيا من حكم هذا النظام.

لقد أعلن الرجل عن أن أي قانون مخالف للشريعة الإسلامية موقوف فورا، ومنها القانون الذي يحد من تعدد الزوجات“. كان الخطاب مفاجئا بشكل خاص للنسوة اللاتي ساهمن في ثورة فبراير على أمل تعزيز حقوقهن ليصدمن بإعلان قد يكون بادرة على فقدان ما كن يتمتعن به فعلاً من هذه الحقوق.

لاحقاً، وضمن جملة اعتذارات قدمها عن فترة حكم المجلس الانتقالي، صرح عبد الجليل بأن إعلانه ذاك كان تنفيذاً لالتزام تعهد به نحو إسلاميين، ومقابله تعهد هؤلاء بأن يلقوا سلاحهم.

لقد أوفى هو بالتزامه ونكل به هؤلاء، كما ذكر عبد الجليل في اعتذاراته.

لكن، هل كانت ليبيا بالفعل في قطيعة مع الشريعة الإسلامية قبل ثورة فبراير كما يوحي إعلان عبد الجليل؟

لا، لم تكن هناك قطيعة. بل إن البلاد شهدت لعقود سبقت فبراير تعزيزاً لدور الشريعة في النظام القانوني.

لقد روجعت قوانين عدة، وأُزيل منها ما كان مخالفاً للشريعة، وسنت أخرى استناداً إليها. في الحقيقة، يمكن القول بأن دور الشريعة في عهد القذافي قد غدا أكبر مقارنة بسلفه: العهد الملكي.

ما كانت المشكلة إذن؟ كما سنبيّن حالاً، تعلقت المشكلة بمفهوم الشريعة، والمخول بتحديده، وتطبيقه.

الشريعة في العهد الملكي

في العهد الملكي (1951-1969)، لم يشر الدستور إلى الشريعة، واكتفى بإعلان الإسلام ديناً للدولة، وهو نص لم يفسر قط على أن فيه اسناد دور للشريعة في النظام القانوني.

من ناحية أخرى، كان للشريعة دور مهم في تنظيم مسائل الأحوال الشخصية، ودور محدود للغاية فيما عداها من مسائل. لقد كانت الشريعة، غير المقننة وعلى مذهب الإمام مالك، حاكمة للأولى، وكان القضاة الشرعيون، في محاكم مستقلة، مسؤولين عن الفصل في دعاويها.

هذا في حين خضعت المسائل الأخرى: مدنية، تجارية، جنائية، إدارية، إلى قوانين مستقاة في سوادها الأعظم من قوانين غربية.

مثال هذه، القانون المدني الذي ماثل نظيره المصري، والذي شكل قانون نابليون مصدر ثلاثة أرباعه، وفقاً لما صرح به السنهوري أحد واضعي القانون المدني المصري وواضع القانون المدني الليبي.

نعم، لقد كانت الشريعة مصدراً يعود إليه القاضي إذا لم يجد نصاً تشريعياً يعالج الدعوى المعروضة عليه، ولكنها لم تكن أحكام الشريعة ولكن مبادئها. وقد قيدت هذه، وفق ما شرح السنهوري، بأمرين: أن تكون محل اتفاق بين المذاهب، وألا تخالف المبادئ التي يقوم عليها القانون.

وجليٌ أن هذا الفهم يقيد إلى حد بعيد من نطاق الشريعة.

لقد كان متصوراً في العهد الملكي أن تحوي القوانين مخالفات للشريعة، وهذا بالفعل ما كانت عليه حال العديد منها، وكانت لهذا هدفاً للمراجعات التي بدأها نظام القذافي في سنوات حكمه الأولى لجعلها متوافقة مع الشريعة.

الشريعة في عهد القذافي

دشنت المراجعات عهداً من أسلمة القوانين استمر طيلة فترة حكم القذافي (1969-2011). ولكن يمكن التمييز فيه بين مرحلتين بحسب المفهوم المتبنى للشريعة، والمخول بتحديده، وتطبيقه.

في المرحلة الأولى، والتي امتدت إلى عام 1977، كان المفهوم المتبنى للشريعة تقليدياً إلى حد كبير: فقد ظلّ مذهب الإمام مالك مرجعاً أساسياً، وإن ضُمّت إليه مذاهب أخرى. وكذلك ظل لعلماء الدين دور هام في تحديد هذا المفهوم.

مصداق هذا لجان المراجعات. لقد شكلت هذه اللجان من علماء في الدين والقانون، وحددت مهمتها في مراجعة القوانين الجنائية والمدنية والتجارية والبحرية، وحصر ما تحويه من مخالفات لأحكام الشريعة، واقتراح بدائل للنصوص المخالفة.

وبالفعل، فقد أدت هذه اللجان مهامها، وصدرت بناء على توصياتها قوانين مستمدة من الشريعة مثل تلك المتعلقة بإقامة الحد على السرقة والحرابة (قانون رقم 148/1972) والزنا (قانون رقم 70/1973) والقذف بالزنا (قانون رقم 52/1974). وأخيرًا، تعاطي المشروبات الكحولية (قانون رقم 89/1974).

لم تشمل المراجعات القواعد الحاكمة لمسائل الأحوال الشخصية لأن هذه كانت حتى ذاك الحين خاضعة لأحكام المذهب المالكي غير المقننة.

ولكن تغييراً هاماً حدث فيما يتعلق بالقضاة المخولين نظر الدعاوى المتعلقة بهذه المسائل. لقد أدمجت المحاكم الشرعية في المحاكم المدنية، وغدا من الممكن لخرّيجي كليات القانون التصدي للدعاوى المتعلقة بهذه المسائل.

لاحقاً، غدا هؤلاء الخريجين بتكوينهم المحدود في علوم الشريعة هم المتصدين غالباً لهذه الدعاوى. وقد كان لهذا أثر لتوجه جديد لنظام القذافي في التعامل مع أسلمة القوانين.

طبع هذا التوجه الجديد تحجيمللتفسيرات التقليدية، من ناحية، وتعظيم لتفسيرات مختلفة كان للقذافي دور رئيس في الدعوة إليها وأحياناً، فرضها. تحقق تحجيم التفسيرات التقليدية من خلال وسائل عدة أهمها تجفيف منابعها بإغلاق جامعة محمد بن علي السنوسي، الجامعة الوحيدة المختصة في تدريس علوم الشريعة، ولاحقاً إغلاق المعاهد الدينية، وإلغاء منصب المفتي.

أما تعظيم التفسيرات المغايرة، فقد تحقق من خلال الادعاء بأهلية كل مسلم لممارسة الاجتهاد، ولو لم تتحقق فيها شروط الأهلية الصارمة في الفقه التقليدي، والاقتصار على القرآن في استقاء الأحكام، واستبعاد السنّة وما حوته من أحكام تفصيلية.

لقد كان القرآن فقط شريعة للمجتمع الليبي، وفق ما نص عليه إعلان قيام سلطة الشعب عام 1977.

ولقد كان للتوجه الجديد أثره على دور الشريعة في النظام القانوني. للمرة الأولى، بدأ تقنين القواعد الحاكمة لمسائل الأحوال الشخصية بعدما كانت خاضعة لأحكام المذهب المالكي. ولم تستمد القواعد الجديدة من المذهب المالكي فقط، بل تعدته إلى مذاهب أخرى، ومثال هذا البارز قانون الزواج والطلاق رقم 10/1984.

ومن الأمثلة البارزة على القواعد غير التقليدية التي حواها تلك المقيدة لتعدد الزوجات، والتي علقته على وجود أسباب جدية وموافقة الزوجة الأولى أمام المحكمة المختصة، أو صدور حكم بالموافقة من المحكمة المختصة في دعوى تختصم فيها الزوجة. ويكون بطلان الزواج الثاني جزاء تخلف هذه الشروط.

وقد كان للقذافي دور رئيس في وضع هذه القيود، ولا أدل على ذلك من تدخله في جلسة متلفزة لمنع صدور قانون يزيل هذه القيود. وتقييد تعدد الزوجات هو مثال على قواعد عدة تضمنها القانون عززت من حقوق المرأة.

وفي الواقع، فإن تعزيز مركز المرأة طبع العديد من القوانين التي سنّت في عهد القذافي، فقد أصبح بإمكانها، على سبيل المثال، تولي القضاء قبل مثيلاتها في دول عربية أخرى. ولكن كان للتوجه الجديد، بما حمله من مخالفات لتفسيرات تقليدية، أثره في جعل القوانين المستحدثة هدفاً لمراجعات ما بعد فبراير 2011.

***

نشر في العدد 11 من مجلة المفكرة القانونية – تونس (الرابط https://bit.ly/2J3dCsY

للإطلاع على قائمة المصادر والمراجع يرجي الرجوع إلى موقع المفكرة القانونية الإلكتروني

_____________

مواد ذات علاقة