بقلم علي عبداللطيف اللافي

منذ لقاء ابوظبي 2 بين “السراج” و”حفتر” والجدل دائر بشكل يومي في ليبيا حول مضمون ذلك الاتفاق وطبيعته، وهل هو ترتيب إقليمي أو دولي، أو هو مجرد لقاء ومحاولة من بين سلسلة من المحاولات السابقة التي باءت بالفشل لحل الأزمة الليبية المتفاقمة منذ منتصف 2014.

ولفهم ما حدث ويحدث وسيحدث قبل وبعد الملتقى الجامع المزمع عقده في مدينة غدامس يومي 14 و15 أفريل/ابريل المقبل، يُمكن القول أن هناك فعليا ثلاث احتمالات ومسارات تُفسر كل التطورات والجدل ومسارات الأحداث منذ 2014، فما هي التفسيرات الثلاث وأي منها صحيحة وما هو مستقبل تطور الأوضاع في ليبيا في أفق الملتقى الوطني الجامع؟

التفسير الأول: السراج هو “عدلي منصور” ليبيا

  يقوم هذا التفسير المستند لعدد من الشواهد على أن تعيين السراج منذ 2015 لم يكن اعتباطيا (بعضهم قال في تدوينات سنة 2016 انه خطة ب للإماراتيين)، وأنه قد أوتي به لإيصال حفتر (كمشروع وليس بالضرورة كشخص)، للسلطة عبر مسار متكامل من المراحل والخطوات أو أنه في حد أدنى قد طُوع لذلك بعد 2017،  وأن كل مبعوث أممي قد أتم مهمته لتبدأ مهمة المبعوث الذي يليه وأن هناك خارطة طريقة مُتكتم عليها بين الثلاثي  “السراج” و”حفتر” و”سلامة”.

وربما ما يؤكد ذلك التوجه أن لقاء بُرمج في عمان منذ أشهر وان لقاءات قد حدثت وترتيبات قد برمجت في عواصم وتم التكتم عليها، وان أسئلة بقيت عالقة ولم يجب عليها المتابعون على غرار زيارة السراج في يونيو 2018 للسعودية وحديث عن لقاء حفتر مع بعض الناشطين من مصراتة بعد أسبوع من ذلك (من بينهم يومها بشاغا وحسن شابا بواسطة البدري الذي شغل يومها مستشارا لحفتر).

وما قد يؤكد هذا التفسير هو أن اتفاق ابوظبي بقي لُغزا رغم نشر روايات عدة حوله إضافة إلى تكتم سلامة على أجندات الملتقى الجامع ووجود تساؤلات حول الإعلان عن موعد الالتقاء ثم تأجيله على غرار قول سلامة يوم 11 مارس في تصريح لقناة “ليبيا الأحرار” أن موعد الملتقى الجامع هو قبل نهاية مارس الجاري ثم تم كما هو معلوم تسريب البعض لتاريخ 26 مارس/آذار، ثم تم الإعلان عن تأجيله ووجود ضبابية حول الموعد (قيل في أبريل وقيل في مايو وتحديدا قبل رمضان وقيل في يوليو).

وفي الأخير تم رسميا تحديد موعد 14-15 ابريل المقبل والإعلان عن التفاصيل والترتيبات لعقده وإنجاحه، كما من الواضح أن ما يقوله سلامة متناقض من مدينة لأخرى حسب البعض من المدونين والناشطين الليبيين وخاصة في ظل حديث البعض عن فوارق منهجية بين حديثه وحديث مساعدته وعدم تجانس المضامين بين مختلف مدن الجهة الغربية.

وما يؤكد الفرضية التي نحن بصددها هو غموض ولاءات بعض قيادات مليشيات طرابلس وعلاقتهم بدول عربية وتناقض موقفهم مع حفتر وسر هروب بعضهم للخارج وتناقض ولاءات المداخلة بين حفتر وعقيلة صالح والسراج.

ويقوم هذا التفسير أن هناك اتفاق متكتم عليه قبل ابوظبي2 وأثناءه وبعده بما في ذلك جدول أعمال الملتقى الجامع والذي في هذه الحالة انه مجرد لقاء لليبيين لن يتجاوز 48 ساعة لتزكية خارطة طريق بسرعة رغبة من طرف دولي معروف والذي يسارع لمسابقة الزمن لغلق الملف الليبي قبل تطورات محتملة للأحداث في الجزائر.

وعمليا في هذه الحالة فان السراج ليس سوى “عدلي منصور” بنسخة ليبية وأن مستقبله مرحلي حتى تتم كل الخطة وانه قد يجازى بمنصب رمزي بما في ذلك رئاسة البلد في حين سيكون حفتر الحاكم الفعلي والذي قد يمر لاحقا إلى سيناريو سيسي ليبي ولكن وفقا للتطورات الإقليمية ووفقا لهندسة التطورات في تونس وفي عدد من البلدان الأخرى.

كما علق أحد المدونين أن السراج قد يركب طائرة في مرحلة ما ويلتحق بعائلته في أحد العواصم الأوروبية ليكمل حفتر بقية مسار الأحداث، وذلك أمر وارد فعليا اذا ما صدقنا أبجدية هذا التفسير بمركباته وفرضيته، وقد يقول البعض أن هذا السيناريو هو قراءة تآمرية للأحداث وتأويل لها.

ولكن هؤلاء ينسون أن حكومة الإنقاذ قد وقع طردها بطريقة ناعمة وان حفتر هو من رفض الصخيرات ثم تم العمل على طرد أنصار من رفضوا الإتفاق في الغرب ليعود حفتر الرافض له في الشرق بل وأصبح يعامل كمفاوض وهو الذي رفض الصخيرات ورفض تزكية حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، وأن نفس المفاوض هو عسكري متقاعد والأصل أن يُفاوض عقيلة صالح السراج وليس حفتر والذي أقر تقرير أممي بتجاوزاته وتجاوزات أبنائه ورجاله.

وأن قوات حفتر وحلفائه قد ارتكبوا انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في درنة (آخرها اعتقال أحد الشيوخ منذ يومين) وفي مرزق في الجنوب الليبي تم حرق بيوت من طرف حلفاء حفتر.

كما لا يمكن إغفال أن السراج ترك حقيبة الدفاع شاغرة بدون مبرر وانه تباطئ في تقديم الخدمات والأمن للجنوب ولم يعين آمرا عسكريا في وقت مبكر ويقول البعض أن ذلك كان بغاية أن يُعطي مبررات قبول حفتر عبر عمليات التسليم وليمكنه من السيطرة على حقول النفط.

ولا ننسى أن السراج لعب دور المعقلن لقوات الجهة الغربية في أكثر من مناسبة وان بعض مستشاريه هم اقرب لحفتر منهم لمصالح الجهة الغربية قواها السياسية والعسكرية.

التفسير الثاني: حفتر والدور المرحلي القصير

يقوم هذا التفسير أن مراحل البناء تختفي فيها الشخصيات الجدلية وان السراج هو خيار استراتيجي ومستقبلي وليس مجرد أداة مرحلية وأنه تمرس على مجاراة الواقع الليبي لأسباب عدة وهي استعداد الكتائب أن تنضوي تحت إمرة المؤسستين العسكرية والأمنية النظاميتين، أما حفتر فان تشريكه في التفاوض قائم انه استطاع إخضاع المنطقة الشرقية لسلطته واملاءاته وبالتالي فهو مرحلة ترتيبية وانه تم بقاءه في المشهد مرحلي لتوحيد الجيش تحت سلطة مدنية وأن سنه وصحته لا يسمحان له البتة بلعب أدوار استراتيجية في المستقبل.

ويستدل البعض على ذلك بالتباين بينه وبين المصريين وبين المصريين والإماراتيين وهناك حديث عن لقاء تم بينه وبين عارف النايض منذ أغسطس الماضي وان هذا الأخير أوصل اليه رسالة إقليمية ودولية  مفادها أن دوره عسكري بحت ومرحلي وأن هذا الرأي بدأ حتى الإماراتيون يقتنعون به.

والثابت أن لا يرى أي شخص أهم منه وأولى منه بالسلطة إلا أنه أمام صعوبات عدة وان لقاء أبو ظبي هو في الحقيقة  إنقاذ له من مآزق عدة نتاج تردي الأوضاع في الشرق الليبي ونتاج التباينات بينه وبين عقيلة صالح وأيضا طول الوقت على حلفائه في الجهة الغربية والذين بدؤوا في التناقص يوما بعد يوم وأنهم حاليا أقرب إلى مدنهم وقبائلهم منهم الى التحالف معه مستقبلا.

والسؤال هل سيكون مستقبل حفتر مشابها لرشيد دوستم في افغانستان او فرح عيديد في الصومال أو غيرهم ممن وسموا بالمتمردين ( وهي صفة أطلقها بعض خصوم حفتر عليه)، أو أنه قد يكون جون قرنق ليبيا أم انه سيكون سيسي ليبيا أو قذافي 2؟

هي كلها سيناريوهات ممكنة في ليبيا ولكن الأنساب متغيرة لتغير الأوضاع المحلية وطبيعة المتغيرات الإقليمية والدولية ولتغير الأنساق والزمن والبناء التراكمي للأحداث في ليبيا منذ انقلاب حفتر الأبيض في بداية 2014.

وفي هذه الحالة الثانية فان حفتر رجل مرحلة ومشروعه بمواصفات 2015  سينتهي مرحليا بغض النظر عن المنصب والموقع والصفة التي سيكتسبها اثر الملتقى الوطني الجامع في 14و15 ابريل المقبل.

التفسير الثالث: القوى الدولية قوى تفاعلية مع التطورات والأنساق والسياقات والأولويات

تقوم هذه القراءة على فرضية أن ما يقع في ليبيا عمليا هو متكامل بين المحلي والإقليمي والدولي ذلك أن طبيعة الصراع في ليبيا هو أنه حرب بالوكالة بين نُخب محلية ضيقة الأفق الاستراتيجي تخدم موضوعيا أذرع إقليمية تشتغل وتقوم بطبيعتها بأدوار وظيفية لقوى دولية غايتها النهائية خدمة مصالح شركاتها الدولية والعابرة للقارات وذلك من اجل الاستفادة من عطايا إعادة التعمير في ليبيا لاحقا ونهب ثروات ليبيا الهائلة والنادرة حاليا وأيضا للمرور بيسر للعمق الإفريقي.

وما يحدث هو أن الأمريكان قد أعطوا أولية مطلقة لمحاربة الإرهاب منذ مقتل سفيرهم في ليبيا سنة 2012 حتى مجئ ترامب الذي أكد خلال حملته الانتخابية نهاية 2016 أنه يريد ترتيب رئاسيات سريعة في ليبيا.

ولكن تم العودة لاحقا وبسرعة لسياسات أوباما تجاه الملف الليبي وليضعوا في الأخير الملف الليبي في درجة الثانوي وهنا حضرت الأجندة الإقليمية وخاصة الإماراتية بقوة في ظل انكفاء المحور القطري التركي على قضايا البلدين الداخلية بسبب محاولة الانقلاب في تركيا وبسبب الصراعات الخليجيةالخليجية وخاصة بعد صعود بن سلمان كولي للعهد مما أتاح خدمات التيار المدخلي لحفتر وحلفائه المحليين والإقليميين وقوة انتشارهم كتيار في الشرق والغرب الليبيين فانتشروا في المساجد والمحاكم وفي الأجهزة والإدارة وخاصة بعد تعيين العباني كمسؤول أول لهيئة الأوقاف في طرابلس.

وعاد عمليا التوازن في الصراع بعد افتكاك الايطاليين لإدارة الملف الليبي في يونيو الماضي، وبسبب الصراعات والتباينات بين القوى في طرابلس منذ نهاية أغسطس الماضي ووجود خلافات داخل حزب العدالة والبناء والذي اضطرته أوضاعه التنظيمية لتأجيل مؤتمره إلى ما بعد الاستحقاقات الانتخابية.

وكل ذلك مضاف إليه وجود اختراقات نوعية وكبرى داخل الفريق الاستشاري والإداري للسراج مكّن حفتر وسط دعم إقليمي ودولي من التوجه للجنوب عبر ترتيب طويل المدى انطلق منذ نهاية يوليو الماضي وبدا بزيارة له للنيجر ثم تريب مع التشاديين بعد دخول الإسرائيليين على الخط وفي الأخير وجد حفتر بيده ورقات قوية للضغط وربح المساحات الفارغة في الصحراء للتمدد ليصبح مسيطر جغرافيا على ثلثي مساحة ليبيا.

وباعتبار أن القوى الدولية تبحث عن حلول وليست أي حلول بل عن حلول تخدم مصالحها وسط صراعاتها وقراءاتها للتطورات وطبيعة قدرتها على التحرك (ليس هناك أي قوة دولية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على الاشتغال على أكثر من ثلاث ملفات دولية في آن واحد)، وبالتالي تابعت تلك القوى إيجاد حل للملف الليبي وفقا للترتيبات وغلق الملف وإرضاء بعض اذرع إقليمية خادمة لها.

وهنا يمكن الحديث عن تراجع الإيطاليين وقبولهم بدور ومساحة لحفتر رغم بهلوانياته معهم في أكثر من مناسبة بداية من يوليو 2017 أو حتى قبل ذلك.

وبغض النظر عن طبيعة الاتفاق الحاصل في أبوظبي2 فان الرهان سيبقى على مدى تفاعل القوى على الأرض وهو ما يفسر ردة الفعل القوية للجهة الغربية ومدنها ومجالس الأعيان والذين واصلوا رفض قبول الاتفاق بناء على ما تم ترويجه ( تصريحات الشح وتحذيرات بعض أطراف سياسية واجتماعية) خاصة في ظل تناقضات تصريحات سلامة بين جلساته المتعددة والتي لاحظها الجميع والعديد من المتابعين واضطر للتعليق عليها – أي ما قيل حول تصريحاتهفي أكثر من حوار تلفزي ( حوار 7 مارس لقناة ليبيا روحها الوطن – حوار 11 مارس لقناة ليبيا الأحرار).

وستبقى التجاذبات قائمة حتى موعد الملتقى والذي يظهر ان الجميع سيحضره وفقا لقاعدة انه “لا مجال للكرسي الشاغر” ولكن كل ممثلي الجهة الغربية وبعض ممثلي الجنوب والجهة الشرقية لن يقبل بأي قرارات في الملتقى وهو امر بُلغ وقيل للسراج ولمساعديه في البعثة الأممية.

ومعلوم أنه قد نُقل عن مسؤول مقرّب من حفتر الجمعة 22 مارس اتهامه للسراج بالتراجع عن تفاهمات توصل إليها الطرفان، الشهر الماضي، كما استبعد انعقاد لقاء قريب بين الجانبين، كما أكد نفس المسؤول أن حفتر اتفق مع السراج، في أبوظبي، على بقاء الأول في موقعه قائداً للجيش من دون تدخل أي سلطة في عمله، قبل أن يتراجع فور عودته إلى العاصمة طرابلس.

وقال نفس المسؤول (الموالي لحفتر) أنه “رغم أن تلك النقطة تم الاتفاق حولها خلال اجتماع أبوظبي2 إلا أن السراج أدلى بتصريحات مغايرة فور عودته لطرابلس…، وأضاف موضحا أن السراج صرّح من خلال الناطق باسمه (محمد السلاك) أنه متمسك بخضوع المؤسسة العسكرية للحكومة، فيما اعتبر ذلك “أمرا مخالفا لما تم الاتفاق عليه”.

وعمليا يظهر ضعف الأنباء المتواترة عن ترتيبات مصرية ـ إماراتية، لعقد لقاء بين حفتر والسراج، الأسبوع المقبل في القاهرة أو أبوظبي، وهو لقاء رغم حديث أطراف عدة عنه فانه لن يعقد قريبا.

ومن الواضح أن الرجلان قد التقيا رسميا وبشكل غير رسمي في أكثر من مرة ومناسبة ولكن حفتر يتعنت ويطلب مساحات لا يستطيع السراج منحها إياه حتى لو وافق عليها اثناء تلك اللقاءات وهو ما يعني أن حفتر سيرفض اللقاء مع السراج، في أبوظبي أو القاهرة مجددا، لأنه أصبح على يقين أنه لن يحصل على كل ما يُريد نتاج عدم قدرة السراج وأيضا نتاج أنه يريد أكثر ما هو ممكن ولأنه يرى في نفسه الحاكم الأول والأخير لليبيا وأنه غير مستعد للتراجع والدليل أنه لم يقم بأي خطوات تُذكر بما في ذلك رفع التباينات بينه وبين المصريين .

والثابت أن القوى الدولية تتفاعل مع التطورات والخيارات المتاحة قوة كل طرف سياسيا وميدانيا وتبقى كُل الأمور ممكنة عمليا والمجتمع الدولي يسعى كل يوم، وهناك مبادرات لجمع الرجلين دائما، ولكن ذلك يتوقف على صدق تلك المبادرات، وضمانات الوفاء بالاتفاقات من الطرف الآخر.

وستبقى كل الخيارات مفتوحة بما في ذلك تأجيل جديد لملتقى الجامع وعقده كما أن فشل الملتقى بعد انعقاده وارد جدا لتعود المعارك ميدانيا عشية الملتقى أو بعده وذلك مرتبط بما سيطرح وبالتطورات الإقليمية والدولية خلال الأيام والأسابيع القادمة.

وتقوم هذه الفرضية أن السياسة حسابات وان كل سياسي له وعليه وان الكسب مرحلي وان الوقائع إقليميا ودوليا قد تضع كل طرف أمام الربح والخسارة وان ربحه متوقفة على قدرته على قراءة الواقعين الذاتي والموضوعي وفهم واستقراء تطورات الأوضاع وتوظيفها لصالحه، ومعنى كل ذلك أن نتائج الملتقى ستكون وفقا لتلك المقاييس الموضوعية.

***

علي عبد اللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الإفريقية

_______________

المصدر : بوابة الوجهة الأولى

مواد ذات علاقة