لقد طال تعقد الوضع في ليبيا الشقيقة وطالت معاناة الشعب الليبي الشقيق ، أما آن لهذه الحرب الداخلية اللعينةأن تضع أوزارها؟

أما آن للأشقاء الليبيين أن يغلّبوا لغة الحوار والتفاهم وأن يجلسوا بروح بناءة حول مائدة المفاوضات للتوصل إلى حل سياسي وطني جامع؟ 

لقد تكبدت ليبيا خسائر طائلة في الأرواح وفي الثروات وأصبحت سيادة ليبيا مهددة ووحدتها عرضة للمؤامرات وثرواتها مجالا للنهب.

لقد بات واضحا أن هذه الحرب لن تفرز أي منتصر، بل بالعكس تماما ستكبد الجميع الهزائم والخسائر. لذلك لا مجال إلا للحل السياسي ولا مفر لكل الأخوة الليبيين من التنازلات المتبادلة والتفاهمات الأساسية حول المشتركات الوطنية.

أما القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في ليبيا فإنها مدعوة جميعا إلى رفع اليد عن أرض ليبيا وعن شعب ليبيا والتوقف عن تأجيج التحارب الأهلي.

إن المطلوب من هذه القوى هو فقط المساعدة على الحوار والتفاوض بين الأشقاء الليبيين ومساعدتهم على التوصل إلى حل سياسي جامع يكون منطلقا لعمليات إعادة البناء والتنمية والديمقراطية.

السياسة في كنف التاريخ والجغرافيا

لفهم الوضع الليبي، من المهم الإلمام بالمكونات التاريخية والجغرافية لهذا البلد الذي يحتل الموقع الأوسط في الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط بامتداد ساحلي طويل ويمثل نقطة تواصل مهمة بين أقطار المغرب العربي والشرق الأوسط والساحل الإفريقي والبحر المتوسط.

لقد استقلت ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية وشكلت المملكة الليبية من ضم المقاطعات الثلاث المتكونة من إقليم طرابلس غربا وإقليم برقة شرقا وإقليم فزان جنوبا بقيادة الملك إدريس السنوسي شيخ الزاوية السنوسية التي قادت الكفاح ضد المحتل الإيطالي والتي ينتمي إليها القائد المجاهد عمر المختار.

وفي 1969 وقع انقلاب مجموعة الضباط الأحراربقيادة القذافي ذي الميول القومية الناصرية والذي حكم ليبيا لأكثر من أربعة عقود (43 سنة) انتهت  بثورة فبراير 2012.

وقد لعبت ليبيا في عهد حكم القذافي أدوارا شتى عربيا وإفريقيا وحتى دوليا ودخلت في صراعات إقليمية وقارية وعالمية ألّبت عليها الكثير من الدول الفاعلة خاصة في الغرب.

وتمتلك ليبيا ثروات طاقية ومعدنية هائلة إلى جانب النفط والغاز في أحواض السرتونالوت وغدامس، نجد ثروات كبيرة من اليورانيوم في منطقتي جبل غريان وغدامس مما يمثل حوالي 80%من ثروة العالم.

أما الذهب الليبي فإنه الأسهل استخراجا في العالم إذ يكفي الحفر إلى مدى 6 أمتار في حين يبلغ 120 مترا في العادة في باقي البلدان المنتجة للذهب. وهو متوفر أغلب المناطق الليبية وخاصة في الجنوب.

لذلك يأخذ الصراع في ليبيا أبعادا استراتيجية فوق محلية ويبدو النزاع القائم بين الأطراف الداخلية بمثابة حرب بالوكالة لفائدة قوى إقليمية وخاصة دولية.

إنها حرب بالوكالة بأذرع ليبية لصالح قوى خارجية بهدف استثمار ثروات ليبيا الهائلة والنادرة واستغلال الساحة الليبية للمرور بيسر نحو إفريقيا.

مأزق الحل العسكري

بقيت الحرب الليبيةتراوح مكانها وظل الطرفان الأساسيان المتصارعان في حالة تقدم وتقهقر متتاليين، فلا قوات حفتر دخلت العاصمة طرابلس ولا قوات طرابلس المتكونة من عدة مجموعات نجحت بشكل نهائي من التخلص من ضغط قوات الجنرال المتقاعد.

كما أن حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج والمعترف بها دوليا تعيش وضعية حصار دون أن تسقط، وبالمقابل يعيش الشرق الليبي (بنغازي، البيضاء، .. ) والذي تسيطر عليه قوات المشير حفتر يعيش أوضاعا مأساوية اقتصادية وأمنية.

وقد ازداد التأثير القبلي والجهوي حدة ولم يعد من السهل تجاوز الصراعات القائمة بين القبائل المتناحرة (في ليبيا 140 قبيلة ! ) والمدن المتحاربة (مصراتة– طرابلس –ترهونة–السرت– الزنتان – الزاوية – .. إلخ).

ومن آخر المستجدات العسكرية سقوط جزء من مدينة ترهونة بيد قوات حكومة الوفاق، علما بأن المشير خليفة حفتر من قبيلة الفرجان في ترهونة.

ولاشك أن لهذا السقوط ما بعده في ميدان الحرب.

وقد ازداد تعقيد الوضع العسكري في ليبيا بعد تدخل كل من مصر والإمارات وروسيا إلى جانب قوات حفتر بعدة وسائل (طائرات، قوات بشرية، دعم لوجستي وفني ..إلخ) وتركيا إلى جانب حكومة الوفاق إثر إبرام معاهدة تعاون بين حكومتي طرابلس وأنقرة.

ولاشك أن كل هذه التطورات، مع إصرار قوى غربية فاعلة في المشهد الليبي على غرار فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا، تؤكد أن آفاق الحل العسكري مفقود تماما وأن الهدف الحقيقي لهذه الحرب هو استنزاف قوى الجميع وعدم السماح بانتصار أي طرف للتمكن من الانتقال إلى مرحلة الحل السياسي.

الحل لا يكون إلا سياسيا

من المستحيل عسكريا وسياسيا أن تنتصر قوات المشير خليفة حفتر وتدخل العاصمة طرابلس. إن أوج الحملة الحفترية أصبح من الماضي ولن تكون الفترة القادمة سوى محاولات لتحسين الشروط في مفاوضات الحل.

لقد وقعت جولة أولى من المفاوضات ببرلين في 21 نوفمبر 2019 عقبتها جولة ثانية في 10 ديسمبر على أن يعقد مؤتمر قمة في 31 جانفي 2020. والمؤكد أنه لا حل قبل نهاية أبريل القادم.

إن الأشهر القادمة بحملاتها العسكرية وجولاتها التفاوضية لن تكون سوى استنزافا للطرفين.

لقد تركت الولايات المتحدة الأطراف الدولية والإقليمية تتورط في الملف الليبي لتنهكها جميعا، وتبرز اليوم مجموعة الخمسة زائد خمسة المتكونة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ومن إيطاليا وتركيا وقطر ومصر وفرنسا (الموجودة في الفريقين أي مجلس الأمن وقوى التدخل) مع عدم إنكار دور الإمارات والسعودية وألمانيا وبريطانيا والجزائر وتونس.

لقد أنجز الليبيون منذ اندلاع ثورة فبراير ثلاثة انتخابات (انتخابات بلدية في 2013 بعد ما سبقتها انتخابات تشريعية أولى في 7/7/2012 ثم انتخابات تشريعية ثانية في جوان 2014).

ولكن الوضع تغير منذ 2014 وأصبح هناك صراع داخلي عميق بعد بروز حفتر على الساحة وقيامه بما يعرف بعملية الكرامة في بدايات 2015. وقد تزامن ذلك بعد حصول الانقلاب الأبيض في مصر وسقوط الرئيس المصري المرحوم محمد مرسي.

ومع استمرار التحارب دون تحقيق أي طرف لانتصار حاسم، برز حديث جانبي عن إمكانية تقسيم ليبيا. لكن الحقيقة أن تقسيم ليبيا مستحيل لأنه من المعروف أنه لم توجد أية دولة قسمت إلا إذا كان يفصل بين أجزائها بحر أو نهر أو جبال أو إذا كانت توجد ضمنها نعرات عرقية أو طائفية.

وبالطبع فإن ليبيا بعيدة عن هذه المعطيات، إلى جانب رفض أغلب الأطراف الفاعلة داخليا وحتى دوليا تقسيم ليبيا. إن الأوروبيين لن يسمحوا بظهور ثلاث دول بدل دولة واحدة في قلب جنوب المتوسط.

كما أن توزع ثروات ليبيا على أغلب مناطقها يجعل من المستحيل القبول بتجزئتها. وقد برزت أخيرا، على سبيل المثال، صراعات اقتصادية حادة بين شركتي توتال الفرنسية وإيني الإيطالية حول استثمار النفط والغاز الليبيين.

لذلك كله لن يقبل في النهاية أي حل عسكري، ولعل التدخلين الظاهرين الأخيرين لكل من روسيا وتركيا من العوامل التي قد تحافظ على توازن القوى وتمنع انتصار أي من الفريقين المتحاربين لينتقل الجميع إلى مائدة المفاوضات وإرساء الحل السياسي.

سقوط الجدار والجناح

لقد سقط خيارا الجدار والجناح وأصبح الطريق سالكا نحو الحل السياسي. يتمثل الجدار في إقامة أنظمة عسكرية في كامل المنطقة من مصر إلى الجزائر. ولما استعصى ذلك خاصة باستحالة إقامة نظام عسكري في تونس ورفض الجيش الجزائري الانقلاب على الدستور ومصادمة الحراك الشعبي بالقوة، أدركت الدول المؤثرة دوليا أن خيار الجدار قد قبر في المهد.

أما خيار الجناح فيتمثل في دعم امتداد التجربة التونسية على جناحيها شرقا وغربا. وقد سقط خيار الجناح أيضا في مصر التي أجهض فيها السيسي الخيار الديمقراطي.. وقد بقيت هاتان الواجهتان في حالة تصادم مستمر في ليبيا إلى أن تأكد عدم إمكانية بسط أي منهما في الساحة الليبية.

لذلك لم تبق سالكة سوى طريق الحل السياسي مع إمكانية تدعيمه بعد الانتخابات الأمريكية ووصول رئيس جديد للولايات المتحدة (ترامب أو غيره).

لقد برزت عدة مؤشرات تؤكد تراجع النظام المصري ومعه الإمارات عن الدعم المطلوب لحفتر بفعل الضغوطات الأمريكية كما أن الفرنسيين والإيطاليين أصبحوا يميلون إلى الرضا بالتوزيع الجديد للمصالح مثلما رضوا بذلك في 1951.

أما الروس فإنهم سوف يضطرون إلى التوصل إلى حل مع الأتراك لأنهم أصبحوا بمثابة الحلفاء في المنطقة (الملف السوري وموضوع الأسلحة الروسية لتركيا.. ).

إن ليبيا اليوم أصبحت بمثابة لبنان السبعينات والثمانينات، ولم يكن من الممكن في لبنان إلا الحل السياسي ولا غالب ولا مغلوب.

الجزائر: اللاعب القديم الجديد

كانت الجزائر وستظل العامل الأساسي الأول الحامي لاستقرار منطقة المغرب العربي والمتمسك بالنأي بها عن كل التدخلات الأجنبية. وقد استغل حفتر فترة الحراك الجزائري للتقدم شرقا في ظل انشغال الجزائر وجيشها الوطني بالأوضاع الداخلية.

واليوم، بعد إجراء الانتخابات الجزائرية، تعود الجزائر إلى موقعها الطبيعي في قلب المغرب العربي وعلى البوابة الشمالية الإفريقية والجنوبية المتوسطية كمراقب يقظ وحارس أمين لاستقرار المنطقة.

وقد أكدت الجزائر رفضها للحل العسكري في ليبيا ودعت مختلف الأطراف إلى المفاوضات وضرورة التوصل إلى الحل السياسي الذي يحافظ على سلامة وحدة ليبيا واستقرارها وسيادتها.

وقد لاحظنا أن الرئيس الجزائري المنتخب السيد عبد المجيد تبون قد خصص يوم تنصيبه الرسمي الحجم الأكبر من كلمته لليبيا وحدد موقف الجزائر الثابت في الموضوع الليبي. وكذلك سوف يكون لعودة الجزائر إلى التعامل مع الملف الليبي آثار محمودة على السير نحو الحل السياسي المنشود والضروري لليبيا الشقيقة.

الخاتمة

لقد تأزم الوضع في ليبيا للدرجة القصوى، ولعله من غير الممكن أن تبلغ درجة التأزم أكثر مما بلغته في الأشهر الأخيرة. ومن باب الاتعاظ يمكننا الاستشهاد بذلك البيت الشعري الجميل:

اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن صبحك بالبلج

نعم، إن انفراج الأزمة على ما يبدو أصبح يلوح في الآفاق .. وستكون الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2020 حبلى ببوارق الحل السياسي وبخروج ليبيا دولة وشعبا من بؤرة التحارب إلى بوابة التفاهم. هذا ما تبشر به على ما يبدو تطورات الأوضاع في ليبيا، وليس لنا من خيار غير التفاؤل والثقة بمسؤولية أشقاءنا في ليبيا لتجاوز الفتنة وإرساء الحل الوطني السياسي المنشود الذي طال انتظاره.

***

وحدة تقدير الموقف السياسي ( مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية)

_____________

مواد ذات علاقة