ميهاري تاديل مارو

تناقش هذه الورقة سؤالين حرجين ومترابطين على خلفية تجربتي إثيوبيا وراوندا. السؤال الأول، ما هي عناصر الدولة التنموية في ليبيا وما هي شؤونها السياسية والإقتصادية والثقافية؟ والسؤال الثاني، في ضوء الاختلافات بين مواقف القوى داخل وخارج ليبيا، هل تعتبر إقامة دولة تنموية هناك أمراً ممكناً؟

الجزء الأول

ملخص تنفيذي

تتيح المرحلة الإنتقالية المعقدة في ليبيا في الوقت الراهن فرصة لمناقشة نموذج جديد للدولة يحيد عن تجارب السلطات الإنتقالية السابقة ويعكس متطلبات التنمية والسلام في ليبيا بصورة أكبر على المدى الطويل.

وأمام ليبيا فرصة للإختيار بين نموذج ليبرالي بقيادة السوق، ونموذج الدولة التنموية، أو نموذج دولة الرفاهية الذي يقع بين النموذجين السابقين.

بالنظر إلى خصوصية السياق الليبي، قد يختار الليبيون مزج وموائمة عناصر من نماذج مختلفة يجدونها ملائمة لإدارة الإقتصاد السياسي للبلاد في المستقبل. ومن بين هذه الخيارات،

ما هي مزايا وعيوب نموذج الدولة التنموية في التصدي إلى التحديات التي تواجهها ليبيا في الوقت الراهن؟

وما هي الدروس التي يمكن لليبيا استخلاصها من تجارب بلدان مثل رواندا وإثيوبيا في تبني نموذج الدولة التنموية؟

رغم اختلاف النموذجين من نواح كثيرة، شهد كلا البلدين مرحلة استقرار وإعادة إعمار تلت مرحلة حرب وإبادة جماعية، وحققا نمواً اقتصادياً سريعا عبر تطبيق نموذج الدولة التنموية.

بناءً على مسار الدولة التنموية في كل من رواندا وإثيوبيا قبل عام 2018، قد يُسهم المزيد من تدخل الدولة في إسراع عملية السلام والتنمية في ليبيا.

ويُعد تأسيس دولة قوية وفعّالة واحدا من أهم واجبات المرحلة الانتقالية في ليبيا. إذ قد يسهم في عملية بناء السلام والتنمية بصورة كبيرة. وستتطلب عمليتا بناء السلام وإنشاء الدولة إطارا قياسياً وقدرة عالية للدولة في إعادة إرساء القانون والنظام والاستقرار في مؤسسات الدولة الاجتماعية والاقتصادية الفعالة التي يمكنها تخصيص الموارد العامة وسن وتنفيذ القوانين وحل النزاعات.

نموذج الدولة التنموية في ليبيا قد يظهر في مشاريع إعادة الإعمار وخطط تنموية بهدف ترسيخ الإستقرار، وبناء الدولة، والدمقرطة.

في المرحلة الحالية، الدولة التنموية تتعلق بسلسلة من الإجراءات لتنمية قطاعي الإمن والدفاع في الدولة والإدارة اللامركزية، وإدارة الموارد، والتنمية، و الديموقراطية.

ولكن، لتحقيق هذه الإهداف، يجب تلبية مطالب رئيسية، منها التوصل إلى اتفاق سياسي بشأن النموذج التنموي والشرعية السياسية لمنفذيه.

نموذج للدولة الليبية ورؤيتها الإقتصادية

أدت حكومة الوحدة الوطنية الليبية الجديدة، برئاسة عبد الحميد ادبيبة، اليمين الدستورية بتاريخ 15 مارس 2021. وستواجه التحديات ذاتها التي واجهتها السلطات الإنتقالية السابقة وهي: إنهاء الحرب الإهلية وإحلال السلالم وتحقيق الاستقرار المستدام والحكم الشامل والديمقراطية، وهو ما يضمن الحفاظ على وحدة البالد وحمايتها من التدخل الخارجي، ويعالج اقتصاد الحرب والإزمة المالية، ويدعم التنمية الاقتصادية السريعة والعادلة لجميع المواطنين.

فبعد نحو عقد من الحرب الأهلية، ويُعتبر اختيار وتبني نموذج للدولة مهمة أساسية. ما هو نموذج الدولة الذي قد يساعد في توجيه البلاد نحو اقتصاد سياسي مستقر وخطة دستورية شاملة تتصدى إلى التحديات المذكورة أعلاه وغيرها من التحديات الأخرى؟

وما هو نوع نظام الدولة الذي يؤمّن السلالم والإستقرار والديمقراطية والتنمية والوحدة في ليبيا؟

وأمام ليبيا فرصة للإختيار بين نموذج ليبرالي بقيادة السوق، ونموذج الدولة التنموية، أو نموذج الدولة الرفاهية الذي يقع بين النموذجين السابقين.

وتُعتبر الدول الإسكندنافية أمثلة جيدة على نموذج دولة الرعاية الإجتماعية. مع ذلك، بدأت هذه الدول في تخصيص موارد كبيرة للرعاية االجتماعية. ولا تؤيد الوقائع الراهنة في الساحة الليبية تطبيق نموذج ليبرالي أو نموذج الرعاية الإجتماعية لأن العنف ليس حكرا على الحكومة المركزية.

كما أنها تفتقر إلى المؤسسات التنظيمية والتنفيذية القوية الضرورية لتطبيق نموذج دولة ليبرالية فعالة. علاوة على ذلك، تفتقر الدولة النيوليبرالية إلى القدرة على تعزيز التماسك الإجتماعي وتخصيص الموارد الوطنية بطريقة تضمن بناء قدرات الدولة للتغلب على الشدائد والمحن.

على سبيل المثال، أظهرت جائحة كورونا، وبأخذ دولة كوريا الجنوبية مثالاً على نموذج الدولة التنموية، أن النموذج النيوليبرالي للدولة لا يخدم المجتمع بصورة سليمة في وقت الشدة، وتمر ليبيا حاليا بأحلك الأوقات.

في هذا الصدد، قد تتعلم ليبيا من تجربتي دولتين تنمويتين إفريقيتين في مرحلة ما بعد الحرب، وهما إثيوبيا قبل عام 2018 و رواندا. رغم اختلاف النموذجين من نواح كثيرة، اختير البلدان لسببين أساسيين.

السبب الأول، شهد كلا البلدين مرحلة استقرار وإعادة إعمار تلت مرحلة حرب وإبادة جماعية، وحققا نموا إقتصاديا سريعا عبر تطبيق نموذج الدولة التنموية. وفي المقاربتين المختلفتين لكل بلد، حاولا معالجة ما اعتبراه الأسباب الجذرية للحروب الأهلية طويلة الأجل: الفقر المدقع والعجز عن استيعاب التنوع.

فقد تمكنت رواندا من الوقوف على قدميها بعد الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994، وكذلك فعلت إثيوبيا بعد ثلاثة عقود من حرب أهلية طاحنة. ولكن البلدان الثلاثة تختلف بصورة كبيرة فيما بينها. على سبيل المثال، تمتلك ليبيا واحداً من أكبر الإحتياطات النفطية في العالم، وهو ما تفتقر إليه رواندا وإثيوبيا.

وحيث أن عدد سكان ليبيا هو الأقل بين البلدان الثالثة (نصف عدد سكان رواندا، وواحد على ستة عشر من عدد سكان أثيوبيا)، يُعد الإختلاف العرقي والديني أوسع في رواندا وإثيوبيا. ورغم أن التنوع العرقي في ليبيا أقل منه في أثيوبيا ورواندا، إلا أن استيعاب التنوع الإقليمي وتنوع الهويات يبقى مسألة مركزية في أي حكومة ليبية في مرحلة ما بعد الصراع. وبالتالي، يمكن استخلاص الدروس من التجربتين.

تناقش هذه الورقة سؤالين حرجين ومترابطين على خلفية هاتين التجربتين. السؤال الأول، ما هي عناصر الدولة التنموية في ليبيا وما هي شؤونها السياسية والإقتصادية والثقافية؟

والسؤال الثاني، في ضوء الاختلافات بين مواقف القوى داخل وخارج ليبيا، هل تعتبر إقامة دولة تنموية هناك أمراً ممكناً؟

تناقش الورقة في القسم الأول المبادئ األساسية للدولة التنموية ومراحل تنفيذها. ويناقش القسم الثاني حالتي الدولتين التنمويتين في رواندا وإثيوبيا كمثالين في تحقيق نمو اقتصادي سريع بعد فترات طويلة من الصراع وانعدام الحكم المتنوع.

فيما يبحث القسم الثالث في كيفية إسهام هذين المثالين في إثراء النقاشات المتعلقة بالنموذج الإقتصادي لليبيا في مرحلة ما بعد الصراع، وذلك بتحليل الفرص والتحديات التي يطرحها نموذج الدولة التنموية في السياق الليبي.

وتنتهي الورقة بتقديم توصيات من أجل تمهيد طريق للمضي قدما دون وصف نموذج دولة واحد متاح أمام ليبيا.

..

يتبع في الجزء الثاني

***

ميهاري تاديل مارو ـ أستاذ (دوام جزئي) في مركز سياسات الهجرة، ومنسق أكاديمي لبرنامج القادة الشباب من أفريقيا في كلية الحوكمة عبر الوطنية، المعهد الجامعة األوروبية؛ يشكر المؤلف الزملاء في برنامج مسارات الشرق الأوسط على تعليقاتهم ومساعدتهم في هذا البحث.

__________

المصدر: منصة الحوار الليبيتابعة لبرنامج مسارات الشرق األوسط في معهد الجامعة الأوروبية. يرمي المشروع إلى إقامة منتدى للحوار والتبادل بين القوى السياسية الرئيسية في ليبيا، والباحثين الليبيين والدوليين، والجهات الفاعلة الأساسية في المجتمع الدولي، بشأن سياسات أساسية لمستقبل ليبيا.

____________________

مواد ذات علاقة