بقلم نهى إسماعيل

مرّت ليبيا بمراحل صعبة عديدة، من مُعظمِها خرجت معتقدةً أنها نهاية عهد الدم وبداية عهد المدنية والانتخاب، لكنها وفي كل مرة تجد أنه هناك من يريدها أن تخوض في المزيد.

إن الواقع اليوم يميل إلى الكوميديا السوداء، فـبدل أن يتكلّـم الشعب عن مراحل تقدم ثورتـهِ وتحقيقِ أهدافها، أين وصل مسار الدولة الديمقراطي وإلى أينَ يـتّجه؟ … تجدهُ يتكلّم عن مراحل الحروب، أسمائها وجنودها فيبدأ العد: حرب السابع عشر من فبراير، حرب المطار، حرب داعش، حرب في طرابلس وسرت وحرب أخرى في بنغازي.

حروب يفهم الليبي من اسمها من المنتصر ومن الخاسر، من المعتدي ومن المدافع، يعرف أسبابها ودوافعها أكثر ممن افتعلها، لا يريدها لكنه يقفُ عاجزاً عن إيقافها، ويتابع انعقاد المؤتمرات هنا وهناك رغم درايته أن الاجتماعات الدبلوماسية لم تتحول يوماً إلى سلام يُخْلِي ساحات القتال، فلماذا ستفعل اليوم؟!

التاريخ وتكراره

عندما قام القذافي بثورته المزعومة في 1969 استطاع أن يجد الدعم والتشجيع من جمال عبد الناصر، ألهمته تلك الشخصية وساعدته في انقلابه، لكنها لم تدفعه للخروج من عباءته البدوية؛

فالقذافي لم يقرأ ولم يثقف فكره السياسي رغم نهجِه الميكيافلي الفطري؛ ولذا فإن مرحلة حكمه لم تتسم إلا بالتقلب والانتقال بين النقيض وعكسه، ولم يـورّث لليبيين إلا الجهل والقفر والقتل والدمار.

حرِص القذافي على سلْب العلم، التخويف من المعرفة باعتقال أصحابها بتهمة الوعي، صَنَعَ بطولات وهمية على أكتاف الليبيين ومن دمائهم، مستعينا بشعارات ساذجة تغطي على مجازره العلنية كما في حرب تشاد، أو صمت خائف في سجونه كما في مجزرة أبوسليم التي صرخت السماء من هولها.

كانت سجون القذافي تسلب منك شبابك أو حياتك، وقد تَسلبُ ما هو أكثر من ذلك، هناك تتشوه روحك من التعذيب والتنكيل الذي تعيشه وتراه، من الذل والقهر وسلبِ مالا يُسلَب، يريدون عقلك، فكركَ وفكرَتك، أن تغيّـر من حقيقةِ أنّـك تعرف، وأنّـك تستطيع أن تفهم.

كان القذافي ككل قائد عسكري يعشق سياسة القطيع، يحب أن تصطف نعاجُه وأن لا تضيع إحداها ثم تضيع أختها فيشرد القطيع كله.

وما زالت سموم ذلك الفكر مزروعة في كثيرين، يحلمون بالجمهورية الخضراء، الاشتراكية دون شراكة، ليبيا الغد، الغد الذي لن يطلُـع أبداً.

نعرف أنّ من الغباء أن يتسمر حفتر ومن معه في محاولات استنساخٍ لـتجربة القذافي في الحكم، فخليفة حفتر اليوم ينتظر سيطرته على طرابلس ليتساوى مع معلمه الروحي معمر القذافي، لكن وعي الليبي بهذه الحقيقة ينقذ الموقف، ويجعل تحقيق ذلك ضربا من المستحيل.

بعد 9 سنوات من المحاولة

يصعب علينا اختيار بداية لنزيف هذا الشعب، فربما عهد القذافي لم يكن إلا استئنافاً للغزو الإيطالي وربما كان ذلك الغزو استئنافاً لأزلِ الابتلاء الذي لا نعلمُ كثيراً عن تفاصيله.

جاءت ثورة فبراير ورفضَت الجهل، لم تكن تريد إلا الحرية، المعرفة والثقافة، فظهر الإعلام، قنوات صغيرة، إذاعات راديو تَـبثُّ من سيارات، محاولات بسيطة جداً تريد أن تصل بها إلى العالم، أن تقول للجميع: صورة القذافي ـ يالَلمفاجأة! ـ ليست صورة الليبيين. بل إنهم أحفاد عمر المختار، الذي وعد بطول حياته، فظهرت روحه في كل فرد.

وهذا ما جعل القذافي يبدأُ حفلة دماء أخرى، وعد الزعيم أن يجعل من هذه البلاد (ناراً، حمراء كالجمر!)، ووفى بوعده، بعد ما يزيد عن 8 أشهر من شلال الدم الظالم، انتهى القذافي ومات، هفتَ شره، وانطفأت ناره، لكن شبح دمه انتشر في أجساد كثيرٍ من الناس.

فرح الشعب وظنّ أنها النهاية!

لكنها كانت بداية، بداية طالت واستطالت، رأى العالم شعباً بقدرات قتالية رائعة، روح جهادية، ونفوس رخيصة أمام الوطن، فَـدسّ في أرضه حروباً لا تنتهي، جاءت روح القذافي في شكل كثيرين وآخر من نعرف منهم هو حفتر.

هيكل منفوخ بإبـرٍ خارجية، دول يريحها توتر المنطقة كالإمارات، والسعودية التي تعرف أن دولاً عظمى كـأمريكا تفضل ملياراتها على فكِّ وحلحلة خيوط اللعبة.

مشهدٌ سريالي لكنه يضخ بالمليارات، ولذا تحولت ليبيا لأرض حرب وخبر عابر، ليس عاجلاً، ليس من شاهد عيان ولا مداخلة من محلل سياسي بل أكثر هامشية، قد يأتي في آخر النشرة، تذيعه مذيعة بصوت يعيش حياة هادئة ” مقتل خمسة أطفال وثلاث نساء في قصف لقوات حفتر على أحياء سكنية في طرابلس، إقفال حقول النفط مستمر وارتفاع جديد لسعر صرف الدولار، إعلان عن هدنة جديدة دون الالتزام بها …”.

لا تغيب هذه الوقائع عن العالم، فكتبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عبر تويتر قائلة ” تستمر الهجمات والهجمات المضادة في ليبيا في التسبب بالمزيد من المعاناة والخسائر في صفوف المدنيين”، داعية إلى الوقف الفوري لأعمال العنف.

وهنا يستمر التساوي بين المعتدي والمعتدى عليه، تختار بعثة الأمم المتحدة تبني لهجة الحياد وأن ترى أنه لا فرق بين أطراف الصراع، ولذا تستمر حفلة الدماء وتغيب رغبة الحل الحقيقي.

ماذا يُنتظر بعد؟

لقد نفخ التمساح في وجه هذا الشعب، فقد اهتمامه بزيف الحلول الممكنة، وضع أحلامه على الرف والتفت يريد خبزاً في الصباح، قهوة عند المساء وراتباً يلتزم بثلاثينيات الشهر، يريد أساسيات الحياة، ماء وكهرباء وعمر لا ينتهي برصاصة غير مبررة السبب.

شوّه الموت صورة الحياة، شوّه الأرواح، وجعل من كلمة إنسان مادة للسخرية، دليلاً على الوهم وزيف كلمات الصحف، اختلف فن التعامل مع هذا الواقع فجزء قتل رغبة إحقاق الحق وغريزة الحرية التي تولد مع المرء وألغى هذا البند من قانون ولادته وفطرته لأن الخذلان أتعبه، وجزء تشوه حتى أسعده مشهد التنكيل بالآخر، وانقسمت الجبهات لمقاتلين لن يتخلوا عن فبراير ومسارها، و مقاتلين اختلط الغضب داخلهم بالحزن والفقد الذي بُرر لهم بالكثير.

الليبي اليوم لا ينتظر الكثير، يرفض كل الحلول التي يأتي حفتر كجزء منها، ويعلم أن لهجات الحياد كذبة.

يسير مع التيار، يعيش لقلّةِ الموت، ويموت لصدفة الوجود، وبإيمانه البسيط يتمسك ببقايا أمل ويفكر أن في الجزاء يوم الحساب ستحكي الأطفال لربِّـها أن لديها قصصاً لم تنهيها و أنها دُفنت برؤوس مائلة مثقلة بالحياة.

فأين ستسير بنا الحرب بعد؟

***

نهى إسماعيل ـ مدونة ليبية

___________

مواد ذات علاقة