بقلم جازية جبريل محمد

نحاول في هذه المقالة تقويم القوانين الليبية المتصلة بالنساء ومدى تأثير الشريعة الاسلامية عليها. والقيام بهذه المحاولة يفترض أولا تحديد المُعاير، والمعيار، والقائم بعملية المعايرة .

تحديد المعيار الشرعي

الشريعة الإسلامية لها عديد التعريفات سواء منها الفقهية أم الدستورية، وليس هناك إجماع على دلالة مفهومها. وهذه حقيقة غالبا ما يتغاضى عنها المنادون بتحكيم شرع الله. ذلك أن هناك من يفهم من الشريعة نصوص القرآن والسنة، وهناك من يفهمها على أنها تشمل الفقه، المستمد من النصوص والمتطور في ظل مقاصدها، وثمة من يفهمها على أنها نظام قانوني مؤسس على نصوص واجتهاد، وثمة من يضمّنها مصادر أخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة.

تفصيلا، ثمة من يميز بين الشرع المنزّل والشرع المؤوّل. والشرع المنزّل مختلف عليه، فمن قائل إنه القرآن وحده، إلى قائل إنه يشمل القرآن والسنة، وقائل إنه يشمل أيضا الإجماع والقياس، وقائل إنه يقتصر على آيات الأحكام. وآيات الأحكام هي الأخرى مختلف عليها، فمن قائل إن كل آيات القرآن آيات أحكام، إلى قائل بحصرها في 500 آية، إلى قائل بقصرها على 200 آية. والشرع المؤوّل بدوره مختلف عليه، فهو يتمثل في موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، ويشمل مذاهب الأئمة الأربعة المختلفة فيما بينها.

من منحى آخر، قد تُفهم الشريعة بمعنى النظام القانوني الإسلامي، أي الأحكام الثابتة بالإجماع، أو المستنبطة من النصوص المتضافرة في القرآن الكريم والحديث الشريف، أو ما في حكم هذا، وقد تفهم على أنها منظومة شاملة، تنطوي على نظرية اجتماعيةاقتصاديةسياسية.

 ولن يفوتنا التأكيد على أن للشريعة الإسلامية عدة معاني في نظر المشرع الليبي. فهي تارة ضيقة لا تعني سوى القرآن الكريم، وأخرى تشمل ما ينص عليه المذهب السائد لدى أهل البلد، أو المشهور من أيسر المذاهب. وقد تشمل المبادئ الفقهية المعتبرة الأكثر ملائمة لنصوص القانون المشير إليها، وأخيرة متسعة لتشمل المذاهب والاجتهادات المعتبرة شرعًا من غير إلزام برأي فقهي معيّن.

كما أن مكانة الشريعة بالنسبة للتسلل الهرمي للمصادر ليس واحداً فهي: شريعة المجتمع، أو المصدر الرئيس للتشريع، أو مصدراً رئيساً للتشريع، أو مصدر التشريع .

ماهية القوانين المعايرة

توجد عدة قوانين ليبية ذات شأن نسوي وقف بشأنها موقف المتسائل عن مدى توافقها مع الشريعة الإسلامية. وعلى سبيل المثال، نذكر:

قوانين ذات صبغة سياسية:

القوانين الانتخابية. وفيها نجد النص على الكوتا والتي تعمل النساء على زيادتها. وهنا قد يجادلنا صاحب الفكر الإسلامي المتشدد بشأن تولي النساء للشأن العام بحديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة“.

وإذا كانت صحة الحديث من حيث الروايةمسلما بها، فإن إغفال مناسبة ورود هذا الحديث يجعل الدرايةبمعناه الحقيقي مخالفة للاستدلال به على تحريم ولاية المرأة للعمل العام. فملابسات ورود الحديث تجعله نبوءة سياسية بزوال ملك فارس وهي نبوءة نبوية قد تحققت بعد ذلك بسنوات، أكثر منه تشريعاً عاما يحرم ولاية المرأة للعمل السياسي العام.

وأمر آخر تجدر الإشارة إليه لإزالة الشبهة عن ولاية المرأة للعمل العام، فهو يتمثل في تغيّر مفهوم الولاية العامة في عصرنا الحديث، وذلك بانتقاله من: “سلطان الفردإلى سلطان المؤسسة، والتي يشترك فيها جمع من ذوي السلطان والاختصاص.

كما أن هذه القوانين تتضمن حكماً متكرراً في الجزء المخصص مفاده أن حق المرشح في تقديم برنامجه الانتخابي مقيد بما لا يخالف الشريعة. وهذا الأمر يدفعنا بشكل خاص إلى التساؤل حول حق المرشحة في إظهار صورتها بدون غطاء للشعر، حيث المشاهدات الواقعية في بعض المدن الليبية تؤكد التعدي على هذه الصور بتغطيتها بلون أسود قاتم. ولذلك يخشى استخدام هذا النص القانوني من قبل القائمين على السلطة التنفيذية متى كانوا حاملين لتوجهات متشددة.

قوانين وظيفية:

على سبيل المثال قانون رقم 8 لسنة 1989 والذي أقرّ بحق المرأة بتولي القضاء. وقد تم الطعن في هذا القانون بحجة أنه ضد الشريعة الإسلامية، علما أن هذا القانون صدر في مناخ تشريعي إسلامي، حيث القرآن الكريم شريعة المجتمع، وحيث التبني الصريح لتشريعات الحدود، وهو من الطعون التي ماطلت الدائرة الدستورية من البت فيها إلى يومنا هذا.

ومعلوم أن اجتهادات الفقهاء القدماء حول تولي المرأة منصب القضاء هي اجتهادات متعددة ومختلفة باختلاف وتعدد مذاهبهم واجتهاداتهم في هذه المسألة. إن الذين قاسوا القضاء على الإمامة العظمى التي هي الخلافة العامة على أمة الإسلام ودار الإسلام مثل فقهاء المذهب الشافعي قد منعوا تولي المرأة القضاء، لاتفاق جمهور الفقهاء باستثناء البعض على جعل «الذكورة» شرطاً من شروط الخليفة والإمام.

ويظل هذا القياس قياساً على حكم فقهيليس عليه إجماع وليس قياساً على نص قطعي الدلالة والثبوت. والذين أجازوا توليها القضاء، فيما عدا قضاء القصاص والحدودمثل أبي حنيفة وفقهاء مذهبه فهم قالوا بذلك لقياسهم القضاء على الشهادة، فأجازوا قضاءها فيما أجازوا شهادتها فيه. وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك وأجاز للمرأة تولي القضاء حتى في القصاص والحدود مؤسساً ذلك على تحوّل القضاءمن قضاء القاضي الفرد إلى قضاء مؤسسي، يشترك في الحكم فيه عدد من القضاة.

بل لقد أصبحت مؤسسة التشريع والتقنين مشاركة في ولاية القضاء، بتشريعها القوانين التي ينفذها القضاة. فلم يعد قاضى اليوم ذلك الذى يجتهد في استنباط الحكم واستخلاص القانون، وإنما أصبح منفذللقانون الذى صاغته مؤسسة، تمثل الاجتهاد الجماعي والمؤسسي لا الفردي.

قوانين ذات صبغة اجتماعية:

من أهمها، المادة 11 من القانون رقم 24 لسنة 2010 التي تقرّ بحق المرأة الليبية بمنح جنسيتها لأطفالها من زوج غير ليبي. وفي أبريل 2013، أصدر السيد المفتي فتوى طالب فيها الحكومة بمنع النساء من التزوج بأجانب. وتناقلت التقارير تجميد وزارة الشؤون الاجتماعية لتصاريح الزواج للنساء الليبيات المتزوجات من رجال أجانب استجابة لهذه الفتوى.

قوانين الأسرة: بمجرد انتهاء النزاع المسلح ومقتل القذافي في نهاية 2011، أطلق مصطفى عبد الجليل رئيس السلطة الحاكمة في ذلك الوقت عبارته الشهيرة بتاريخ 23/10/2011، أن من حق الرجل شرعا الزواج بأكثر من امرأة، منتقداً تقييد الحق بشروط محددة في قانون الزواج والطلاق رقم 10 لسنة 1984 وتعديلاته. وكان النظام السابق وضع شروطا معينة للقبول بتعدد الزوجات، وفق ما نص عليه الشرع الحكيم الذي اشترط العدالة لإباحته.

وفي تأكيد قضائي لذلك الخطاب الرئاسي، قضت المحكمة العليا الليبية في عام 2013 بعدم دستورية تقييد حق الرجل في الزواج الثاني على خلفية مخالفته للشريعة الإسلامية. وهو ما ترجم أخيرا من قبل السلطة التشريعية في طرابلس المؤتمر المنتهية ولايتهبإصداره تشريعاً جديداً ألغى فيه الشروط المنصوص عليها سابقا للترخيص بالتعدّد.

من الهام في هذا الإطار أن نشير إلى قوانين تساند المرأة وتستند على الشريعة مثل القانون رقم 6 لسنة 1959 بشأن حماية حق النساء في الإرث والذي ينص في مادته الثانية أنه لا يجوز الامتناع عن أداء ما تستحقه المرأة من نصيب في الميراث“. وقد ذهب المشرع إلى حدّ تجريم هذا الفعل وإن بقيت العقوبة هزيلة: الحبس مع الحكم للمرأة بأداء ما تستحقه. كما أن للنص قيد إجرائي متمثل في الشكوى. وعلينا أن نلاحظ أن المشرع هنا يتناول حقها المنصوص عليه في القرآن بما فيها أحكام التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين، فيما يغيب  الحديث في الأوساط النسوية الليبية تماما عن إعمال المساواة في هذا المجال.

قوانين جنائية : تبيح المادة 14 من قانون العقوبات كل سلوك يعد ممارسة لحق من الحقوق الشخصية التي كفلتها الشريعة الإسلامية. ولم يطبق هذا النص على حد علمنا إلا بشأن تسويغ الاعتداء الزوجي على المرأة بالضرب وبالاغتصاب بحجة ممارسته لحقه الشخصي المكفول شرعاً سواء في التأديب أو في المعاشرة الحميمة.

وللتأكيد على ذلك نكتفي بإيراد حكمين قضائيين صادرين عن المحكمة العليا الليبية: أحدهما بشأن واقعة ضرب زوج لزوجته بالرغم من أن قانون العقوبات لم يتضمن نصاً خاصاً في شأن حق الزوج في تأديب زوجته. إلا أن المحكمة العليا أكدت على انتفاء المسؤولية الجنائية عن الزوج الذي يضرب زوجته في الحدود المعقولة تأديباً لها استناداً على نص المادة 14 من قانون العقوبات الليبي .

أما الآخر بشأن واقعة إتيان الزوجة من الدبر: لم تذهب فيه المحكمة إلى تكييفه سلوكاً ضد حرية وإرادة الزوجة أو ضد الأخلاق والعرض وذلك لوجود العلاقة الزوجية المبيحة لحق المعاشرة الزوجية. ولكنها حاولت أن تبسط حماية لحق الزوجة في الكرامة وترفع عنها المهانة وتقر بحصول إيذاء وضرر، فلجأت لنص المادة 398عقوبات ليبي مكيّفة الفعل على أنه إساءة معاملة أحد أفراد الأسرة علماً بأن المصلحة المحمية ليست واحدة والفلسفة الكامنة وراء التجريم مختلفة.

ويضيق المقام عن الحديث حول قبول شهادة المرأة في جناية القتل. ويلحظ أن المؤتمر الوطني سحب بموجب قانون رقم 14 لسنة 2015 من المرأة أهلية شهادتها على عقد الزواج، بالرغم من أن كثيراً من فقهاء الشريعة يجوّزن شهادتها على ما هو دون القصاص والحدود.

هوية القائم بعملية المعايرة: من الهام جداً تحديد الجهة التي تعطي صلاحية الحكم على قانون ما بأنه مخالف للشريعة الإسلامية. وفي ليبيا إلى وقتنا الحالي تقتصر هذه الصلاحية على الدائرة الدستورية في المحكمة العليا. إلا أن دار الإفتاء لا تنفك عن إصدار فتاوى تحدد من خلالها مدى شرعية القوانين السارية في البلاد. وبرغم أن هذه الفتاوى غير ملزمة، إلا أنها ذات تأثير كبير على العقلية المجتمعية الليبية وعلى القائمين بالسلطة التنفيذية.

ولعل من المهم التساؤل عن التوقيت الذي يتم فيه تقييم القانون كونه مخالفا أم متوافقا مع الشريعة الإسلامية. فهل يتم هذا التقييم في فترة إصداره بما يمكن أن نسميه رقابة سابقة أم بعد البدء في تنفيذه بما نسميه رقابة لاحقة؟

كل هذه الأسئلة تجيبنا عليها الحالة الليبية بما لا يدع مجالاً للشك ـ كما رأينابأن القائم على السلطة التشريعية والقائم على السلطة التنفيذية وحتى القائم على السلطة القضائية، في لحظة ما، ذات ظروف زمانية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية معينة، يقوم بالحكم على القانون المزمع إصداره أو القائم والمعمول به في وسط إسلامي معتدل لمدة تزيد عن العشرين عاماً ويقرر أنه مخالف للشريعة الإسلامية. ويساعده في ذلك قابلية النص الشرعي للتأويل مما يجعله معياراً نسبياً متغيراً وفق السلطة القائمة على تقنينه وتفسيره.

علة اختلال الميزان

المشاهدات العملية والتطبيق التنفيذي للقوانين يفيد أن معضلة المرأة الليبية الأساسية لا تكمن في القوانين، إنما في المنظومة القيمية والثقافة المجتمعية. وهذا ما تؤكده المسوح البحثية، والأحكام القضائية، والفتاوى الدينية المعبرة عن تفسير صاحبها للنص الديني القابل للتأويل. ولن تستطيع المرأة الليبية كسب معركتها والظفر بحقوقها إلا إذا تصدت لمهمة عسيرة وهامة ألا وهي تفسير الشريعة الإسلامية والقراءة في فقهها والكتابة عنه، سيما الفقه النسوي.

كما أنه يجب أن تتبوأ مكانتها في قلب السلطة التشريعية وفي لجانها التشريعية وتتمكن من مراكز صنع القرار في السلطة التنفيذية. كما لا يجب أن تغيب عن الهيئة العليا للإفتاء، وتظل مطالبتها بمجلس أعلى للمرأة مطلباً منطقياً لأجل مأسسة كل الجهود الرامية لتعزيز حقوقها المكفولة في الشرائع الدينية والاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية.

***

جازية جبريل محمد ـ أستاذة قانون في جامعة بنغازي

***

المصدر: مجلة المفكرة القانونية (العدد 11) – تونس

للاطلاع على العدد، انقر هنا

https://bit.ly/2J3dCsY

_____________

مواد ذات علاقة